آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » الهوية السورية بين الاحتكار والانتماء

الهوية السورية بين الاحتكار والانتماء

 

د. سلمان ريا

في سياق التحوّلات التي تشهدها الدولة السورية منذ سنوات، يبدو واضحًا أن البلاد تقف اليوم على مفترق تاريخي دقيق؛ مفترق لا يقتصر على التحديات الأمنية أو الاقتصادية أو الدستورية، بل يمتد إلى الأعمق: سؤال الرؤية، أي: كيف نرى سوريا؟ ومن أي زاوية نقرأ مأساتها ومسارات نهوضها؟

لقد جرى – على امتداد عقد ونصف من الأزمة – اختزال الواقع السوري في سرديات متقابلة متصلّبة: “ثورة ضد الاستبداد”، في مقابل “مؤامرة كونية على الدولة”. هذه الثنائيات، رغم ما فيها من عناصر واقعية جزئية، لم تُنتج رؤية وطنية متكاملة، بل ساهمت في استنزاف الوعي الجمعي، وتحويل الجدل الوطني إلى حرب هويات داخلية وصراع ولاءات خارجية، دفع فيها السوريون، بمختلف انتماءاتهم، أثمانًا باهظة لا تزال تتضاعف حتى اليوم.

في مثل هذه اللحظات، تكون أخطر الاستجابات السياسية هي تلك التي ترى بعين واحدة، وتبني خياراتها على سردية أحادية تُقصي الآخر وتختزل الوطن في طرف. إنّ الأزمة السورية لم تكن خطًا مستقيمًا يمكن تتبّعه من نقطة بداية إلى نهاية، بل هي شبكة متداخلة من الأسباب والنتائج، من العوامل الداخلية والخارجية، من التطلعات الشعبية، والاحتقانات البنيوية، والتدخلات الإقليمية والدولية التي تصاعدت تحت عناوين متضادة، بينما كانت البلاد تفقد شيئًا من سيادتها كل يوم.

وفي ظل هذه التشظيات، لا يمكن بناء سوريا جديدة باستدعاء صراعات الماضي، ولا بإعادة إنتاج منظومات ما قبل الحرب. فـ”السلطات” ليست كلّ الدولة، و”المعارضون” ليسوا كلّ الشعب، و”السيادة” لا تُستعاد بالشعارات، بل بإعادة بناء العقد الاجتماعي الوطني على قاعدة التوازن بين الحقوق والواجبات، والانتماء والمواطنة، والسلطة والمسؤولية.

ليس المقصود من هذه المقاربة نفي ما جرى، ولا تمييع الجرائم أو المحاسبة، بل العكس تمامًا: أنسنة السياسة وإعادة توجيه البوصلة نحو سوريا الإنسان، لا سوريا السلطة أو سوريا الطائفة أو سوريا الجغرافيا المفككة.

فالمصالحة الوطنية ليست قرارًا فوقيًّا، بل رؤية تتجسّد في مؤسسات العدالة الانتقالية، والإعلام المسؤول، والتعليم النقدي، واللامركزية الإدارية التي تُمكّن الأطراف من المشاركة لا من التقوقع. وهي، بالدرجة الأولى، تستوجب الاعتراف المتبادل بالمسؤولية، لا بوصفه إدانة، بل كمدخل للشفاء الجماعي من الجراح التي لم تندمل بعد.

ومن يرد أن يُنقذ سوريا اليوم، لا يكفيه أن ينتصر عسكريًا، أو أن يُنجز تسوية خارجية، بل عليه أن يعيد صياغة الرؤية الوطنية من الداخل، عبر قراءة شاملة للسنوات الماضية، بما فيها من أخطاء كبرى وقصورات مزمنة في الإدارة، وتهميش لقطاعات واسعة من المجتمع، واحتكار للقرار، وانكفاء عن الإصلاح البنيوي.

لقد أثبتت التجربة السورية – كما غيرها من التجارب المعاصرة – أن الدول لا تسقط حين تنهار الأنظمة، بل حين تغيب الرؤية ويُختزل الوطن في معسكر واحد. وأن النصر الذي لا يُترجم إلى عقد مدني جامع هو هزيمة مؤجّلة، حتى وإن رُفعت فوقه الرايات.

إنّ ما نحتاجه اليوم ليس تبادل اللوم، بل توسيع زوايا الرؤية: أن ننظر إلى الضحية لا كقضية إعلامية، بل كإنسان؛ أن نقرأ السجون والمخيمات والمنافي لا كأوراق ضغط سياسي، بل كمؤشرات على عمق الأزمة وفشل مقارباتها التقليدية.

نحن بحاجة إلى رؤية تبني ولا تُقصي. لا تعني هذه الرؤية نفي الدولة أو إنكار شرعيتها، بل العكس: إعادة تأسيس مشروعيتها على قاعدة التمثيل الشعبي والمساءلة، لا على منطق الغلبة أو الرضى الدولي المؤقت.

نحن بحاجة إلى وعي سياسي تاريخي يدرك أن ما توحّده الجغرافيا لا ينبغي أن تُمزّقه الهويات المتصارعة، وأن إعادة الإعمار لا تبدأ بالإسمنت، بل بالثقة.

وفي نهاية المطاف، سوريا ليست نظامًا، ولا فصيلًا، ولا ساحة نفوذ. سوريا أفقٌ سياسي وإنساني وتاريخي يجب أن يُعاد اكتشافه، لا بمنطق النصر والهزيمة، بل بمنطق الدولة التي تتّسع لأبنائها جميعًا، دون تمييز، ودون أحكام مطلقة.

سوريا، بكل ما مرّت به، لا تزال تنتظر من يراها كاملة. لا بمنظار واحد، ولا بعين مشروطة، بل بعينين مفتوحتين على الجرح والرجاء معًا. وذاك وحده كفيل بأن يجعل المستقبل ممكنًا.

 

 

(موقع اخبار سوريا الوطن-2)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

أهداف الحرب الأصلية تتثبّت | أميركا – إسرائيل: ما المانع من ضمّ غزة؟

  يحيى دبوق     تتّجه الأوضاع في قطاع غزة نحو ما يمكن وصفه بـ«تجميد نسبي» للقتال، يُعيد ترتيب المشهد، وينقل الحرب إلى مستوى آخر. ...