موسى أشرشور
كما كان متوقّعاً، تحاشت الحكومة الجزائرية إصدار أيّ ردّ فعل رسمي على مبادرة الملك المغربي، محمد السادس، التي أبدى فيها استعداده لفتح «حوار أخوي» مع الجزائر. ولا يعود ذلك إلى أنّ الظرف لا يبدو مؤاتياً بالنسبة إلى الجزائر، التي تتركّز دبلوماسيتها منذ مدّة على النزاع المحتدم مع فرنسا فحسب، وإنّما أيضاً إلى أن خطاب الملك جاء خالياً من أيّ عرض قابل للتطبيق، علماً أن هذه ليست المرة الأولى التي يطرح فيها الجانب المغربي فكرة الحوار وتطبيع العلاقات، من دون أن يقترن الطرح بخطوات ملموسة، أو تقديم أيّ تنازلات.
وكان محمد السادس قد دعا، في خطابه يوم 29 تموز الماضي، إلى فتح حوار «صريح ومسؤول» مع الجزائر، في إشارة ضمنية إلى رغبة المغرب في إعادة العلاقات المقطوعة مع الجزائر منذ عام 2021، ولا سيّما في ظلّ حاجته إلى فتح الحدود البرّية المغلقة بقرار جزائري أحادي منذ عام 1994، وإنعاش التجارة والسياحة المغربيتين اللتين تضرّرتا إثر غياب التدفّق الجزائري، الذي كان يشكّل رافداً مهماً للاقتصاد.
لكنّ الملك، في الخطاب نفسه، أكّد تمسّكه بخيار حكم الصحراء الغربية باعتباره خياراً لا رجعة فيه، معبّراً عن اعتزازه بتزايد الدعم الدولي لهذا الطرح بوصفه إطاراً لحلّ قضية الصحراء، في وقت لا تزال فيه الجزائر متمسّكة بمبدأ تقرير المصير وتسوية القضية وفقاً لقرارات الأمم المتحدة، ومصرّةً على جارتها، إلى جانب الإمارات، بتحريض بعض دول الجوار، مثل مالي، ضدّها. أمّا الأخطر بالنسبة إلى الجزائر، فهو توجّسها من أيّ تحرّك تُقدم عليه المملكة في المنطقة، منذ تطبيع الأخيرة علاقاتها مع الكيان الإسرائيلي.
على أنّ إعلان الملك جاء مفاجئاً للمراقبين؛ إذ لم تسبقه أيّ خطوات تمهيدية أو مؤشّرات إلى وجود نيّة فعلية أو خطة سياسية لترطيب الأجواء بين البلدين الجارين. ومع ذلك، كانت حدّة الحرب الكلامية والإعلامية بينهما قد تراجعت في الأشهر الأخيرة، وسط غياب التصادمات الاستعراضية في المحافل الدولية والأفريقية على وجه الخصوص، والتي كانت تغذّي الاحتقان. وترافق ذلك مع تغيّر مفاجئ في لهجة بعض المسؤولين المغاربة – بينهم وزير المالية فوزي لقجع، المعروف بمواقفه المناوئة للجزائر -، الذين دعوا إلى فتح الحدود وتجاوز الخلافات و«بناء مغرب عربي موحّد». كما توقّفت، فجأة، حملات الشيطنة والسخرية من الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، في وسائل الإعلام المغربية، وهو ما أثار استغراب المتابعين الجزائريين الذين يشكّكون عادةً في نوايا المغاربة.
«أيدٍ مزيّفة»
إعلامياً، لم يلقَ خطاب الملك اهتماماً يُذكر في الصحافة الجزائرية، في وقت تجاهلت فيه كثير من الصحف الحدث تماماً. غير أنّ أهمّ تعليق جاء على أعمدة جريدة «الخبر» المستقلّة، في مقال رأي شديد اللهجة بقلم الصحافي زكريا حبيبي، نُشر في اليوم التالي للخطاب، وقرأه العديد من المتابعين المغاربة على أنّه يتحدّث بلسان النخب السياسية الحاكمة في البلد، في ظلّ غياب أيّ ردّ فعل رسمي من السلطات الجزائرية. ووصف المقال، المنشور بعنوان «محمد السادس والأيدي المزيّفة الممدودة إلى الجزائر»، دعوة الملك بأنّها «خطاب مستهلك» و«يد ممدودة كاذبة»، مذكّراً بمواقف المغرب من مسألة الصحراء الغربية ورفضه «الامتثال للقانون الدولي» حيال هذه القضية.
تعود جذور التوتر بين الجزائر والمغرب إلى ما بعد استقلال الجزائر عام 1962
كما وصف الكاتب مبادرة الملك المغربي بأنّها «ليست إلاّ نسخاً ولصقاً لأيدٍ ممدودة كاذبة ومستهلكة، في عالم يتغيّر مع ضعف أوروبا التي أصبحت بمثابة بيدق لواشنطن، وهو ما أكّده الاتفاق الأخير حول التعرفات الجمركية، مع العلم أنّ إدارة (الرئيس الأميركي دونالد) ترامب لم تعُد ترى الأمور كما كانت في كانون الأول 2020، في تغريدتها الشهيرة»، علماً أنّ ترامب كان قد أعلن، في عهدته الأولى، تأييده الصريح للخيار المغربي في تسوية المسألة الصحراوية.
وإذ أشار الكاتب إلى أنّ المغرب «يعيش حالة انهيار اقتصادي واجتماعي»، فقد لفت إلى أنّ ذلك «أصبح في حسابات الأميركيين الذين يستعدّون، على الأرجح، لرسم مخطّط جديد للمنطقة»، مستدلّاً بتصريحات مستشار ترامب السابق، جون بولتون، الذي «أحبط كل محاولات المخزن لتشويه صورة جبهة البوليساريو، الممثّل الشرعي والوحيد للشعب الصحراوي»، وكذلك تصريحات المستشار الرفيع في الإدارة الأميركية، مسعد بولس، الذي «شدّد على الدور المحوري للجزائر كقوة ودولة مركزية في المنطقة».
صراع ممتدّ منذ الاستقلال
تعود جذور التوتر بين الجزائر والمغرب إلى ما بعد استقلال الجزائر عام 1962؛ إذ اندلعت «حرب الرمال» عام 1963 بسبب الخلاف الحدودي، لكن سرعان ما عادت العلاقات إلى مجراها الطبيعي. وفي فترات متفرّقة بعد ذلك، وقعت مناوشات عسكرية في المنطقة الحدودية نفسها، إلا أنّ ملك المغرب الأسبق، الحسن الثاني (1961 – 1999)، كان حريصاً على الحفاظ على علاقة حسن الجوار والسلام مع الجزائر، على الرغم من الخلاف الجوهري حول قضية الصحراء الغربية والمناورات الدبلوماسية التي تطبع تلك العلاقات. وبلغت علاقة الأخوّة والصداقة بين البلدين ذروتها بعد التوقيع على تأسيس «اتحاد المغرب العربي» في الجزائر عام 1988، بمشاركة جميع دول المنطقة.
لكن عام 1994 شكّل نقطة تحوّل، إثر عملية إرهابية دامية وقعت في مدينة مراكش، اتهمت السلطات المغربية أجهزة المخابرات الجزائرية بالوقوف خلفها، ما دفع الحكومة الجزائرية إلى إغلاق الحدود البريّة مع المغرب ردّاً على الاتهام. وازدادت التوترات مع مطالبة الجزائر بتسليم عبد الحق العيادة، أحد قادة «الجماعة الإسلامية» المسلحة، الذي كان قد لجأ إلى المملكة، وكادت الأمور تصل إلى حدّ المواجهة بين الطرفين.
كما شهدت العلاقات فترة حرجة أخرى عام 2000، على وقع اشتعال الحملات الإعلامية والحرب النفسية بين البلدين، بسبب إقدام أحد أعوان الدولة المغربية على انتزاع العلم الجزائري من إحدى القنصليات خلال عيد الثورة الجزائرية، في فعل استفزازي أثار موجة من السخط في الجزائر. واستمرّ الوضع على هذا النحو حتى عام 2021، حين كان تأييد الرباط لحركة القبائل الانفصالية (الماك)، بقيادة فرحات مهني، بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس. ولم تتردّد الحكومة الجزائرية، التي كانت تمرّ بظروف سياسية دقيقة بعد الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة قبلها بسنتين، في إعلان القطيعة الدبلوماسية مع المغرب وقتذاك.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار