رغم الحر الشديد ما تزال الفرص سانحة لمساحات واسعة من الحوار . وفتح أبواب السؤال على مصراعيه ..
فلا حديث بين الاقتصاديين والمواطنين في سوريا على حد سواء سوى عن الـ14 مليار دولار من الاستثمارات في سوريا التي أعلنت عنها مؤخراً هيئة الاستثمار السورية، وتشمل توسعة مطار دمشق الدولي ومشروع مترو للعاصمة وحزمة عمرانية وتجارية ولوجستية، غير أنّ السؤال الذي يطرحه الجميع هو كيف يتحوّل الاحتفال بهذه الاستثمارات الضخمة إلى عقدٍ مُلزِم، والعقد إلى تمويلٍ مُقفَل، والتمويل إلى ورش مفتوح تُنتج خدمات؟
حسب تقارير وتحليلات اقتصادية على منصات إعلامية رصدت ” الحرية ” آراء مراقبين وخبراء في الاقتصاد تحدثوا إلى “وكالات” حول الانتقال من المذكرات إلى التنفيذ يرون أنّ الدولة السورية تعمل تحت ضغطٍ مالي ولوجستي وأمني استثنائي، وأنّ تحويل المذكرات إلى عقودٍ وتمويلٍ مُقفَل مسألةُ وقتٍ وتوازنات، وأنه ما إن تستقر البيئة حتى تغادر المشاريع منصة “اقتصاد الصور” إلى أرض “اقتصاد الورش”.
ووفق لآراء ومعلومات “وكالات” فإن ما أُعلن حتى الآن هو مذكرات تفاهم (MOUs) تغطي توسعة مطار دمشق الدولي بكلفة تتجاوز 4 مليارات دولار بهدف رفع السعة إلى نحو 31 مليون مسافر سنوياً، ومشروع مترو للعاصمة تقارب كلفته ملياري دولار، إضافة إلى مجمّعات سكنية وتجارية ومرافق للتنقّل الحضري.
أما على مستوى التنفيذ، يشرح متخصصون الترتيب الفني والمالي المعتاد ويوضحون: تنتقل المذكرة إلى عقدٍ مُلزِم بعد “العناية الواجبة” الفنية والمالية والقانونية، وتتكوّن لكل مشروع “شركة غرض خاص” (SPV) تُفتح لها حساباتٌ مقيّدة بالصرف، تُفرَج دفعاتها تبعاً لمسار الإنجاز على أرض الواقع، فالمال لا يدخل إلى خزينة الدولة كشيكٍ واحد، بل كسلسلة تدفّقات مرتبطة بالتقدّم على الأرض.
وغالباً ضمن حزمة تمويلٍ مختلط تجمع رساميل مباشرة مع قروضٍ ميسّرة وضمانات مخاطر سياسية وتشغيلية لخفض كلفة رأس المال وتحفيز دخول رساميل خاصة إضافية. بهذه الهندسة يصبح سؤال كيف سيصل مبلغ 14 مليار؟ قابلاً للإجابة الدقيقة: عبر قنوات مشاريع محدّدة، وبالسرعة التي تسمح بها الدراسات والمناقصات ودورة الإقفال المالي، لا عبر ضخٍّ نقدي مباشر في السوق.
في هذا الإطار، يشير خبراء الاقتصاد أنّ اختزال المسألة في “حجم الوعود” هو أمر يحتاج لتعريف. فحتى مليارات الدولارات قد تتحوّل إلى أثرٍ محدود إذا لم تُرفق بهياكل تعاقدٍ شفافة وقابلة للرقابة، وتتابعٍ مؤسسي يضبط التسليمات والتضخم والمخاطر القانونية.
تشير المعلومات أنه وعلى المستوى المعيشي، تُقدّم المشاريع المُعلنة مسارين متوازيين للأثر، المسار الأول سريعٌ ومحدود لكنه محسوس، إذا خُصصت من اليوم “ممرات تمويلٍ اجتماعية” للصيانة والمشتريات الحيوية: كقطع غيار لشبكات الكهرباء والمياه، تمويل مخزون استراتيجي للقمح والمستلزمات الطبية، وتجهيزات بلدية أساسية.
في هذه الحالة، يمكن أن يلمس المواطن خلال 3–6 أشهر انتظاماً أفضل في الخبز والدواء والمياه، وتراجعاً لبعض الانقطاعات والأعطال المتكررة، أما المسار الثاني فأبطأ لكنه بنيويّ: بين 6 و12 شهراً تتدحرج ورش إعادة التأهيل الحضري والطرق الداخلية والمرافق المتوسطة، بما يخلق موجة وظائفٍ مؤقتة ويضخّ دخلاً محلياً في مواد البناء والنقل والخدمات.
أما بين 18 و36 شهراً، ومع تبلور توسعات المطار ومقاطع تشغيل أولى للمترو ومرافق النقل العام، فيظهر الأثر الثقيل: زمنُ رحلة أقصر وكلفتها أدنى، ربطٌ جوي وتجاري أوسع، فرص عمل تشغيلية وصيانة وخدمات تمتد من أرض المطار إلى الفندقة والتجزئة وتجارة التجزئة، وتحسّن في بيئة الأعمال عبر انخفاض تدريجي في كلفة اللوجستيات.
هذا الأثر مشروطٌ بتسلسل ذكي للأولويات: كهرباء وتوزيع ومياه ونقل عام .
امتحان الحوكمة والمخاطر: الشفافية، العملة، الجدوى
يتقدّم امتحان الحوكمة على امتحان التمويل، فمن دون منافسة علنية وأطر شراء موحّدة ودفاتر شروط قابلة للتدقيق، سيبقى جزء معتبر من القيمة المضافة يتسرّب إلى “ريع الوساطة” بدل أن يُترجم خدمات ووظائف.
وعليه فإن المخاطر الكلية لا تقلّ شأناً، إذ إن وجود تدفّقات خارجية غير معقّمة قد يولّد موجات تضخّم قصيرة–متوسطة الأجل، خصوصاً إذا تزامنت مع إنفاق محلي غير منضبط أو مع توقّعات مبالغ فيها تدفع التجّار إلى تسعير استباقي.
المعالجة هنا تقنية ولكنها حاسمة، وذلك عبر تعقيم نقدي مضبوط لتدفّقات العملة الصعبة، وربط صارم لصرف الدفعات بمؤشرات التقدّم المادي، واتفاقات خدمة واضحة للمشاريع التي تُسعّر خدماتها محلياً فيما كلفتها بالدولار (المترو مثلاً)، بما يشمل آليات ترتيب الفجوة التمويلية (Viability Gap) من دون توليد عجز مزمن.
وتتضمّن سلّة المخاطر عنصر العملة على وجه الخصوص: كثير من عقود التوريد والإنشاء والتشغيل مُسعَّرة بالدولار، فيما الإيرادات بالعملة المحلية.
ويعتقد خبراء أنّ الأهم حالياً هو تبني صيغ تعاقدية تتضمن مؤشرات فهرسة واضحة، وتقاسماً للمخاطر بين القطاعين العام والخاص، وأدوات تحوّط عند الحاجة، لتفادي “صدمات” فجائية في السعر النهائي للخدمة.
ويسري ذلك على نموذجي العائد أيضاً: الإيرادات “الملاحية” للمطار (رسوم الهبوط والركاب والملاحة) والإيرادات غير الملاحية (تأجير مساحات، مناطق تجارية، خدمات وقوف وطعام وتجزئة)، وعلى المترو حيث نسبة تغطية التكاليف من التعرفة نادراً ما تكفي وحدها، ما يستلزم إيرادات مساندة وعقود تشغيل تشاركية تُحفّز الأداء ولا تُرحّل المخاطر بالكامل إلى الدولة أو المستخدم.
مصدر حكومي: دراسات وحوكمة
في إطار متصل، يشير مصدر حكومي سوري رفيع أنّ “الأرقام المُعلنة تمثّل تعهّدات استثمارية تتقدّم وفق مسار واضح: من مذكرات تفاهم إلى عقود نهائية بعد استكمال الدراسات الفنية والمالية والقانونية”، موضحاً أنّ الدخول المالي سيكون مرحلياً عبر شركات مشروع وحسابات مقيّدة بالصرف، مع مزيج من الاستثمار المباشر والقروض الميسّرة وضمانات المخاطر.
ويضيف المصدر أنّ الأولوية في الأشهر الستة الأولى ستُمنح للمشاريع السريعة الأثر في الكهرباء والمياه والطرق الداخلية، بالتوازي مع إطلاق الأطر التعاقدية للمشاريع الهيكلية الكبرى. ويؤكد المصدر تحضير بوابة شفافية تعاقدية لنشر ملخصات العقود وجداول التنفيذ، وحصر الإسناد المباشر بحالات محدودة وتحت رقابة مالية وقضائية، معتبراً أنّ المعيار هو الإقفال المالي وبدء الأشغال لا الاحتفالات والصور.
بالمحصلة، تنعكس مخرجات مؤتمر الاستثمار السوري على السوريين بقدر ما تُترجم إلى عقود ممولة وجداول تنفيذ قابلة للقياس. مبلغ الـ14 مليار ليس سيولة تُضخ في السوق، بل محفظة آجال وتمويل مختلط يمرّ عبر قنوات مشاريع محدّدة ودفعات مرتبطة بالتنفيذ؛ طبيعته متدرّجة بين قصير لتخفيف الاختناقات، ومتوسط للبنى التوزيعية والمرافق، وطويل للأصول الثقيلة كالمطار والمترو.
ووفق المصدر الحكومي، سيشعر المواطن، إذا سارت الأمور في مسارها المؤسسي، ببوادر خلال أشهر عبر انتظام نسبي في الخبز والدواء والمياه وتقليص أعطال متكررة، ثم بموجة وظائف مؤقتة مع ورش التأهيل، وأخيراً بأثر بنيوي بين 18 و36 شهراً على زمن الرحلة وكلفتها وربط البلاد جوياً وتجارياً.
كيف بالضبط سينعكس ذلك؟ يشير المصدر عبر ثلاث دوائر ملموسة: فاتورة انتقال أدنى وزمن أقصر، وخدمات أساسية أكثر انتظاماً بفعل ممرات تمويل اجتماعية موازية، وفرص عمل تمتد من التشييد إلى التشغيل والخدمات المحيطة.
أما التحدي الحاسم، فهو أن تُدار هذه المليارات كرافعة لسلاسل قيمة منتجة وأن تُصان بثلاثة صمامات: شفافية تعاقدية، وانضباط مالي–نقدي، وتسلسل أولويات يمنح الكهرباء والتوزيع والمياه والنقل العام أسبقية على الرمزيّات العمرانية.