د. سلمان ريا
يُظهر تحليل الواقع السوري الراهن أنّ البعدين الاقتصادي والأمني لم يعودا مجرد مسارات منفصلة، بل تحوّلا إلى خطين متلازمين يحدّد كلّ منهما فعالية الآخر. فالتدهور المعيشي ـ المتمثل في التضخم، ضعف القوة الشرائية، وانهيار الخدمات العامة ـ لا يقتصر أثره على حياة الأفراد، بل ينعكس بصورة مباشرة على الاستقرار الاجتماعي والأمني. في المقابل، فإن غياب البيئة الأمنية المستقرة يعيق أي إمكانية لإطلاق مسار تنموي فعّال ومستدام.
في الأدبيات السياسية المعاصرة، يُنظر إلى الأمن باعتباره مفهومًا مركّبًا لا يقتصر على ضبط العنف المباشر، بل يشمل ما يُعرف بـ الأمن الإنساني؛ أي تأمين شروط الحياة الكريمة وضمان العدالة الاقتصادية والاجتماعية. ومن هذا المنظور، فإن الأمن لا يتحقق عبر إسكات فئة اجتماعية وإعلاء صوت أخرى، بل عبر تأسيس نظام يُشعر جميع المواطنين بأنهم شركاء متساوون في الحقوق والواجبات. الأمن إذن هو نتاج المساواة، كما أنّ التنمية هي شرط لتعزيزه.
التجارب المقارنة في المنطقة تؤكد هذه الجدلية: فلبنان عانى خلال العقد الأخير من انهيار اقتصادي حاد رافقته هشاشة سياسية وأمنية، ما أدى إلى فقدان الثقة بالمؤسسات واندفاع المجتمع إلى أنماط تفكك داخلي. أما العراق، فشكّل مثالًا على عجز الاقتصاد الريعي، في ظل غياب استقرار أمني، عن تحقيق العدالة الاجتماعية أو الحد من البطالة، وهو ما أسهم في إعادة إنتاج دوائر العنف والانقسام.
الحالة السورية، في ضوء هذه الأمثلة، تتجلى كأزمة مركبة لا يمكن اختزالها في بُعد اقتصادي أو أمني فقط. فالمواطن السوري اليوم يواجه ضغوط المعيشة من جهة، ويعيش في ظل هشاشة أمنية كامنة من جهة أخرى. ومن ثم، فإن أي مشروع وطني جاد لا بد أن يؤسس لسياسات متزامنة: إصلاح اقتصادي تدريجي يُعيد تحريك عجلة الإنتاج ويضمن الحد الأدنى من العدالة التوزيعية، إلى جانب مقاربة أمنية جديدة تعرّف الأمن باعتباره حماية للإنسان والمجتمع، لا مجرد ضبط للنظام.
هذا التكامل بين التنمية والأمن يشكّل القاعدة الضرورية لبناء دولة المواطنة؛ الدولة التي تتجاوز منطق المحاصصة والتمييز، وتعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس المساواة في الحقوق والواجبات. المواطنة هنا ليست مفهومًا قانونيًا مجردًا، بل هي ركيزة لإعادة الثقة المفقودة، وأداة لإعادة إدماج مختلف الفئات في مشروع وطني جامع.
إن سوريا، وهي تخطو نحو استحقاقات المرحلة المقبلة، تقف أمام خيار تاريخي: إما الاستمرار في دوامة الأزمات المتجددة، أو الشروع في مسار مزدوج يربط بين التنمية والأمن، ويؤسس لعقد اجتماعي جديد قوامه المواطنة المتساوية. إن اختيار المسار الثاني ليس ترفًا فكريًا، بل شرط وجودي لاستعادة الدولة والمجتمع معًا.
(موقع اخبار سوريا الوطن-1)