يحيى دبوق
على رؤوس الأشهاد، أعلنت إسرائيل خطواتها المقبلة في قطاع غزة، والمتمثّلة بما يلي: استعدادات جيشها لاحتلال مدينة غزة، إرسال آلاف أوامر التعبئة إلى جنود الاحتياط، الإعلان عن بدء تدريبات، الحديث عن عدد الألوية التي ستشارك في العمليات الهجومية، المناورات التي يجريها الجيش على أطراف المدينة، وحديثه بالتفصيل عن خطّته العملية، من مراحل التنفيذ والأهداف المرحلية، إلى البنية التحتية المطلوبة، والتقديرات المتوقّعة لخسائره البشرية أيضاً.
وما تقدّم ذكره، ليس مجرد تسريبات من غرف مغلقة، بل حديث مكثّف عبر وسائل الإعلام، وكأنّ العملية أضحت عرضاً مبرمجاً يراد منه البعث برسائل في غير اتجاه. أمّا اسم الهجوم، «مركبات جدعون 2»، فيحمل هو الآخر رمزية عميقة: فالرقم «2» ليس تحديثاً تقنيّاً فحسب، بل استكمال لسيناريو سابق فشل في تحقيق أهدافه، أي «مركبات جدعون» الأولى التي وعدت بالحسم العسكري، وتحرير الأسرى الإسرائيليين، وإسقاط «حماس»، وانتهت إلى خيبة أمل.
وممّا يلفت الانتباه، هنا، الإفراط في تسريب تفاصيل الخطة من عديد الجنود (أكثر من 100 ألف جندي احتياط)، إلى مواعيد التعبئة (الثاني من أيلول المقبل)، وتفاصيل التمرينات والمناورات، وصولاً إلى التقديرات بسقوط أكثر من 100 قتيل إسرائيلي في معركة واحدة. فهل من المنطقي أن تتحدّث دولة ما عن خطّة عسكرية بهذا القدر من التفصيل قبل تنفيذها؟ أم أنّ التسريب جزء من الخطّة نفسها؟ قد تكون «مركبات جدعون 2» عملية عسكرية حقيقية، لكنها تخدم إسرائيل أيضاً في كونها أداة ضغط سياسية وتفاوضية، عبر استغلالها لدفع «حماس» نحو التنازلات القصوى، قبل البدء في تنفيذها عمليّاً.
والعملية، التي وصفها وزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، بأنها مخطّط شامل لاحتلال مدينة غزة «لتغيير وجهها إلى الأبد»، تشمل، وفق التسريبات والبيانات الرسمية، المحاور التالية: إخلاء قسري لِما يقرب من مليون فلسطيني هم سكان المدينة وجوارها، في اتّجاه وسط القطاع وجنوبه، مع فرض حصار عسكري محكم حول المدينة عبر السيطرة على النقاط الجغرافية الحاكمة المحيطة، ثم يلي ذلك قصف مكثّف من الجوّ والبرّ، قبل البدء بالهجوم البرّي، عبر قوات مشاة ومدرّعات.
ووفقاً لمصادر الجيش، فإنّ استدعاء الاحتياط شمل إلى الآن ثلاثة ألوية، بالإضافة إلى عدد من الكتائب، في حين يجري العمل على تعبئة وحدات إضافية، على أن تجري جولات تعبئة إضافية في كانون الأول المقبل وبداية العام الجديد، ما يوحي بأنّ العملية العسكرية ستمتدّ زمنيّاً. وتهدف «مركبات جدعون» الثانية، بحسب بيانات الجيش، إلى «إخضاع حماس»، أو، كما تقول مصادر عسكرية عبر موقع «واللا»: «تقريب حماس من الشروط التي حدّدتها القيادة السياسية.
تخدم «مركبان جدعون 2» إسرائيل في كونها أداة ضغط سياسية وتفاوضية
أمّا ما يُعدّ إخضاعاً فيفصَّل فيه لاحقاً». وتعني تلك الإجابة أنّ الجيش لا يُعرّف «النصر» عملياً، بل ينّفذ تعليمات فحسب؛ علماً أنه يقدّر، هذه المرّة أيضاً، أنه بقي لدى «حماس» لواءان في مدينة غزة، ولواء ثالث في مخيّمات الوسط، بعدما أعلن تفكيك تلك الألوية سابقاً، وأكثر من مرة، في سياق الحرب الطويلة.
هكذا، يَظهر أنّ ثمّة شبه انفصال بين الواقع العسكري والتوقّعات السياسية؛ فالجيش يعدّ لعملية طويلة يدرك تعقيداتها، وهو لا يَعِد بشيء من الآن، لأنه لا يمتلك تعريفاً واضحاً لأهداف العملية، التي أجبرته القيادة السياسية عليها. في المقابل، يحدّد المستوى السياسي شروطاً وأهدافاً غير قابلة للتنفيذ عمليّاً، من مثل تفكيك «حماس» بالكامل، وتسليم جميع الأسرى أحياء، وضمان عدم عودة التهديد.
وتدار، في الموازاة، مفاوضات بلا ضجيج يُذكر، برعاية مصرية – قطرية، تُطرح فيها صيغة صفقة جزئية قد تُشكّل مخرجاً من المأزق. ووفق ما بات معلوماً، وافقت حركة «حماس» على التسوية والهدنة المؤقّتة، بما يشمل الإفراج عن 10 من المحتجزين الأحياء لديها، ورفات آخرين، في مقابل انسحاب تدريجي للجيش الإسرائيلي وإطلاق سراح عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين، مع رفع جزئي للحصار والشروع في مفاوضات إنهاء الحرب.
لكن أيّ ردٍّ لم يخرج من إسرائيل بعد، لا قبولاً ولا رفضاً، وإنْ كانت التصريحات والأفعال تدلّ على رفض تل أبيب التسوية الجزئية، خصوصاً وأنّ رئيس حكومتها، بنيامين نتنياهو، ليس متحمّساً سوى لمواصلة الحرب والإبقاء على الخيار العسكري قائماً أطول مدّة ممكنة. أمّا الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فيقول: «لن نرى عودة للرهائن إلّا بعد تدمير حماس تماماً»؛ والكلام هذا ليس رأياً سياسيّاً، بل يعدّ بمنزلة غطاء كامل سيستخدمه نتنياهو لتبرير رفضه أيّ صفقة جزئية.
مع ذلك، لا تبدو التغريدات والمواقف المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي لترامب وكبار مسؤولي إدارته، كافية لتفسير توجّهات الإدارة الأميركية حيال مسار الحرب، وإنْ كانت تصلح بشكل لا لبس فيه لتعظيم الضغط على حركة «حماس»، في مرحلة الاستعداد للعملية العسكرية في مدينة غزة.
على أي حال، يبدو أنّ ما تسعى وراءه إسرائيل هو باختصار: فرض وقائع ميدانية على الأرض تُضعف «حماس» إلى الحدّ الأقصى، وتجبرها – وفق حسابات تل أبيب – على الاستسلام الكامل، نتيجة الانهيار الميداني. مع ذلك، لا يفتأ الجيش يحذّر من عدم القدرة على تنفيذ المهمّة كما يُرسم لها، ويعرب عن خشيته ممّا سيلي تنفيذها. وهذه التحذيرات، وإنْ لم تكن معارضة صريحة، فهي على الأقلّ سبب رئيس لتأخير التنفيذ، وتمديد مرحلة «الاستعداد» قدر الإمكان.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار