آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » “ألاسكا” وبداية الزمن الثالث

“ألاسكا” وبداية الزمن الثالث

 

د. سلمان ريا

على تخوم الجليد، حيث تلتقي المسافة بين الشرق والغرب في أقصى نقطة من الشمال، انعقدت قمة واشنطن وموسكو. لم تكن مجرد اجتماع بروتوكولي ولا مشهدًا إعلاميًا عابرًا، بل بدت كأنها لحظة إيذان بولادة زمنٍ ثالث في العلاقات الدولية، زمنٍ لا يُشبه الحرب الباردة التي انطوت صفحاتها، ولا الانفراد الأميركي الذي بدأ يتداعى، بل زمنٌ هجين يقوم على إدارة النزاعات بدل حسمها، وعلى تدوير الأزمات بدل دفنها، وعلى أنصاف الحلول التي تُحوّل المؤقت إلى دائم والمرحلي إلى بنية قائمة.

ما جرى في ألاسكا ليس سوى اعترافٍ غير معلن بأن النظام الدولي لم يعد قادرًا على إنتاج انتصاراتٍ كاملة ولا على صياغة سلامٍ شامل. فالعالم يستنزف نفسه في حروبٍ كاسرة لا طائل منها، ويجد أن الاستقرار المعلّق أهون من المغامرة بانفجاراتٍ جديدة. ومن هنا تنبثق فلسفة التوازنات المؤقتة: حروبٌ منخفضة الكلفة، سلامٌ منخفض الكثافة، ومسرحٌ سياسي تتحرك فيه القوى الكبرى ببراغماتيةٍ تحسب الخطوة والظلّ معًا.

وسوريا، بحكم موقعها وعمقها الجيوسياسي، تبقى المرآة الأوضح لهذه التحولات. فهي مختبر للتفاهمات وميزانٌ حساسٌ لتوازن القوى. روسيا تسعى لتثبيت حضورها ولو تحت عبء العقوبات، تركيا تقتنص اللحظة بما يخدم أمنها وحدودها وملف اللاجئين، إيران تكتشف ضيق الهامش بعدما تمددت في فراغات التوازن، إسرائيل تواصل ضرباتها تحت سقف التنسيق الضمني، والولايات المتحدة تدير من الخلف عبر ضغوطٍ اقتصادية وشروطٍ سلوكية. وما ينتظر السوريين في هذا الأفق ليس اختراقًا شاملاً بل تراكمًا لتسوياتٍ صغيرة: معابر تُفتح وتُغلق، هدَنٌ موضعية، وخطوط تفاوضٍ تُدار لتظل معلّقة.

غير أن القراءة الأعمق تكشف أن اللحظة ليست عابرة. إنها بداية لتاريخ جديد، تاريخٍ لا يقوم على نصرٍ مطلق ولا على هزيمة كاملة، بل على القدرة على البقاء والمشاركة في هندسة الزمن وهو يتشكل. هنا يكمن التحدي أمام السوريين: أن يتحولوا من موضوعٍ للمساومات إلى فاعلٍ في صياغة الغد. فالمستقبل لا يُعطى كهبة، بل يُنتزع بالوعي وبحسن التقدير وببناء دورٍ وطني جامع يستفيد من كل فسحةٍ في التوازن الدولي.

ما بعد ألاسكا ليس حدثًا عابرًا في أرشيف القمم، بل لحظة تأسيسية لعصرٍ جديد، زمنٍ ثالث يولد على مهل، ستُقاس فيه قوة الدول بقدرتها على قراءة إشارات المستقبل واستباق مساراته، لا بمجرد ما تملكه من سلاحٍ أو أرض. والاختيار، في النهاية، خيارنا نحن: أن نصنع موقعنا في هذا العالم الجديد، أو أن يُصنع لنا موقعٌ في هوامشه.
(موقع اخبار سوريا الوطن-2)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

اختراق استراتيجي..!

    كتب محمد خير الوادي :   من الثابت ، ان قمة واشنطن ، التي ضمت رؤوساء امريكا واوكرانيا وقادة اوربيين ، اضافة للامين ...