د. محمد الحوراني
في زمن الخيانة الإبداعيّة وانحراف القيم، يقف صنع الله إبراهيم في الطابق الأخير للأدب، حيث تبقى الكلمة حيّة، ويعلو صوت الصدق فوق أيّ نزق ثقافيّ أو مجاملة اجتماعيّة.
أن تقرأ صنع الله إبراهيم يعني أن تغوص في أعماق القداسة والطهر الأدبيّ والإبداعيّ الذي لم تستطع الإغراءات والإغواءات النيل منه والتأثير على صلابة مواقفه ورسوخها، فهو الروائيّ المبدع والمثقّف الملتزم الذي آثر الانحياز إلى عدالة القضيّة الفلسطينيّة ودافع عن حقوق شعبها الأعزل إلّا من إرادته.
صنع الله إبراهيم الذي رسّخ حضوره في الذاكرة الثقافيّة العربيّة، حين وقف على مسرح ملتقى القاهرة للإبداع الروائيّ في 22/10/2003، ليعلن أمام الجميع رفضه للجائزة الممنوحة من المجلس الأعلى للثقافة في مصر، في موقفٍ أربك الحضور والمتابعين، لكنّه لم يكن مفاجئاً لمن خبر شخصه وعرفه على حقيقته.
حياة صنع الله إبراهيم ( ١٩٣٧- ٢٠٢٥) لم تكن كحياة غيره من الروائيّين اللاهثين وراء المجد الزائف والأدب الرخيص.
فهو المتمرّد بفكره وأدبه، والمتماهي مع أوجاع الإنسان والرافض للمهادنة والمساومة على القضايا المبدئيّة والمصيريّة، تلك المواقف التي كانت انعكاساً لمبدئيّته فهو الأبعد عن الجوائز التي تمنح لتلميع وجوه أو تبييض أموال، والأكثر إيماناً بأن الانحياز لخلود الكلمة الصادقة أسمى من أيّ تكريم.
إنّه صنع الله الذي أتقن أدبه، واختار الصدق حبرًا لكتاباته، فغدت رواياته معلماً من معالم طريق الالتزام والمسؤوليّة الأخلاقيّة والأدبيّة، وظلّ حتى اللحظة الأخيرة رافضاً العيش في بحبوحة الحياة ورغدها، قابضًا على جمر الإبداع الملتزم لتكون حياته ثمنًا باهظًا لمواقفه التي دفعها سجناً وعذاباً ومعاناةً يجدها القارىء بين حروف كتاباته وفي صفحات رواياته الواقعيّة، والتي قدّمها إلى جمهوره بعيداً عن تعقيدات اللغة وفذلكات الروائيّين والمثقّفين الانتهازيّين، ولهذا أتت رواياته معرّيةً الطبقيّة والإرهاب، كاشفةً لزيف الحكّام وفاضحةً لاستبداد السلطات القمعيّة التي اختارت التمكين على رؤوس المساكين والمسحوقين والمهمّشين.
كان ثابتًا كالجبال الراسخة، لكنّه مرّ في حياتنا سريعًا كالسحاب، تاركًا وراءه مطر الخير وأثر العطاء حيثما حلّ.
وكان من القلّة النادرة من المثقّفين اليساريّين الذين لم تدفعهم التحوّلات والانهيارات السياسيّة والاجتماعيّة للتخلّي عن مبادئهم، فبقي النموذج الأبهى للروائيّ الملتزم، والمبدع النزيه البعيد عن عوالم النخاسة الأدبيّة، والثابت في موقعه كمثقّفٍ نقديٍّ لا يركن للسائد ولا يجامل القبح في الحياة.
حقّقت رواياته حضوراً لافتاً في الوطن العربيّ والعالم، واحتلّت موقعاً مميّزاً بين الأعمال الروائيّة التي شكّلت وعي أجيالٍ من القرّاء، وأثبتت أنّ الأدب الحقيقيّ لا يعيش إلّا بالصدق.
وإذا كان أمله قد خاب من مأساويّة أوضاعنا وضياع أحلامنا وتلاشي أفكارنا، بعد أن وصلنا إلى مرحلة القتل على الهويّة، فإنّ الأمل ما زال حاضرًا في أن يبقى أدب صنع الله إبراهيم نبراساً لمن يبحثون عن الإبداع الحقيقيّ والكلمة الصادقة.
لك الخلود يا شيخ الرواية وملهمها، وأنت الذي علّمتنا أنّ العدل مجرّد كلمة تتلون وفق مزاج الحارس، وأن الحرية قد تأتي في صورة فتحة تهويةٍ صغيرةِ تمرّر قليلاً من الضوء وكثيراً من الغبار داخل الجدران.
لك المجد في علياء أدبك وأنت الذي أحسنت تصوير التفاف السياسة والاقتصاد معاً حول رقبة المواطن، كما يلتفّ حبل غسيلٍ مهترئٍ حول عنق الطابق الأخير.
إنّه ” شرف ” الرواية وصدق المبدع في زمن الخيانة الإبداعيّة والتحلّل من الثوابت والقيم، وهو زمنٌ غدا بأمسّ الحاجة إلى ” اللجنة” لتفضح نفاق المثقّفين وانتهازيّتهم كما فضحت المستبدّين وأساليبهم.
(أخبار سوريا الوطن1-بوابة الشرق الأوسط الجديدة)