آخر الأخبار
الرئيسية » كلمة حرة » العقل والحرية في مستقبل سوريا

العقل والحرية في مستقبل سوريا

 

 

د.سلمان ريا

 

منذ قرون والعقل في هذه المنطقة يتوزّع بين ثلاثة مسارات كبرى: عقلٌ يكتفي بالبيان، يبحث في اللغة والنصوص عن أجوبة لكل سؤال؛ وعقلٌ ينشد البرهان، يتطلّع إلى المنطق والعلم والحجة؛ وعقلٌ يغرق في العرفان، يذوب في الغيب ويستعير من الأسرار خلاصًا مؤجلاً. لكن هذه المسارات لم تتكامل يومًا، بل تحوّلت إلى جزر متباعدة، يُقصي بعضها بعضًا، ويترك الإنسان بين لغة متحجّرة، وعلمٍ يتيم، وروحٍ هائمة.

 

لقد دفعت سوريا، كما غيرها، ثمن هذا التشظي. في لحظة الأزمة الكبرى، حين انهارت الجدران وبرزت الحاجة إلى عقل يوازن بين الحرية والمسؤولية، لم نجد إلا بقايا عقلٍ بياني يحتمي بالتقليد، أو عرفاني يهرب إلى الغيب، أو برهاني معزول لا صوت له في السياسة والمجتمع. فجاء الاستبداد ليملأ الفراغ، وجعل من الولاء بديلًا عن الفكر، ومن القمع أداة لضبط الفوضى التي صنعها هو نفسه.

 

غير أن التجربة المريرة تحمل درسًا: لا خلاص بالعودة إلى أيّ من هذه الأطر منفردة. فالعقل البياني إذا تُرك وحده يتحوّل إلى قيد لغوي–نصي يعطل الحياة. والعقل العرفاني إذا انفرد صار غيبية تبرّر الاستسلام. والعقل البرهاني إذا عُزل صار نخبويًا بلا جذور. إن المطلوب هو تجاوز هذه الثنائية العقيمة بين النقل والغياب، وبين العقل المعزول والعقل المأسور، نحو عقلٍ إنساني–تحرّري يدمج البيان بصفته وسيلة تواصل، والبرهان بصفته أداة معرفة، والوجدان بصفته عمقًا إنسانيًا.

 

هذا التحول ليس ترفًا فلسفيًا، بل هو شرط بقاء. فالحرية لن تتحقق ما لم نتحرر أولًا من أسر البنية العقلية التي تعيد إنتاج الاستبداد جيلاً بعد جيل. والعدالة لن تُبنى ما لم يتحول الإنسان – لا الطائفة، لا الحزب، لا الزعيم – إلى مركز كل مشروع سياسي واجتماعي.

 

إن المستقبل يبدأ من وعيٍ جديد: وعي يرى في الإنسان القيمة العليا، وفي الحرية شرط كل حضارة، وفي الكرامة جوهر كل هوية. سوريا يمكن أن تكون بداية هذا التحول، إن امتلكت شجاعة مواجهة ذاتها قبل مواجهة غيرها.

 

فالطريق واضح: لن ينهض الوطن بعقلٍ أسير، بل بعقلٍ محرَّر يفتح الباب لزمن جديد، زمن لا يكون فيه البيان قيدًا، ولا العرفان هروبًا، ولا البرهان عزلة، بل جميعها جسورًا إلى إنسانٍ ينهض من رماده كطائرٍ يعرف أنه لا وطن له إلا الحرية.

(أخبار سوريا الوطن-1)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لماذا أصبحت ذاكرتنا قصيرة؟

    سليمان خليل   هل الموضوع يتعلق بعلم النفس أم بالطب ؟ أم أنه بات تقليداً تعودنا عليه وأدخلنا في تواتر الحياة اليومية وازدحامها ...