جاد حجار
في الذكرى الـ43 لاحتلال بيروت من قبل القوات الإسرائيلية والحصار الذي تعرّضت له العاصمة اللبنانية، ولا سيّما المنطقة الغربية منها، لا بدّ من استذكار حصار غزة اليوم.
يحكي محمود درويش عمّا شعر به أثناء حصار بيروت في ديوانه «مديح الظل العالي» الذي كتبه في بيروت خلال الحصار عام 1982: «بحر من أمامك، بحر خلفك، بحر فيك!».
بعد انسحاب «منظمة التحرير الفلسطينية» من لبنان في عام 1982 إلى تونس، لم يبق في المخيّمات الفلسطينية سوى المدنيين. وفي 14 أيلول (سبتمبر)، اغتيل بشير الجميل، فانتفضت مجموعات موالية لإسرائيل وتحت رعاية أرييل شارون مباشرة وارتكبت مجزرة مروّعة في مخيمي صبرا وشاتيلا، حيث وصل عدد القتلى إلى 4 آلاف في يومين.
ما أشبه غزّة ببيروت وصبرا الثمانينيات! إذا أخذنا كتابات محمود درويش معياراً، سنجد أنّ العنف نفسه والعدو بالشراسة نفسها. يقول «شاعر الأرض» في قصيدته «صبرا فتاة نائمة»: «لمَ ترحلون، وتتركون نساءكم في بطن ليل من حديد؟ لمَ ترحلون، وتعلّقون مساءكم فوق المخيم والنشيد».
وهذه المشهدية تمثّل تماماً النساء والأطفال الذين يواجهون وحدهم العطش والجوع والترحيل اللانهائي. ويتابع درويش: «كم مرّة ستسافرون، وإلى متى ستسافرون، ولأي حلم؟ وإذا رجعتم ذات يوم، فلأي منفى ترجعون؟».
«لا برّ إلا ساعداك، لا بحر إلا الغامض الكحليّ فيك، اسحب ظلالك من بلاط الحاكم العربي»
إذا تمعّنا في تفاصيل الحصار، نرى الجوع والعطش، إلا أنّ الجرح العميق هو جعل الفرد منفياً في مكانه، هائماً بوجوده، لا يجد المعنى ولو عادت الحياة طبيعيةً.
لم يعد الموضوع قضية حقوقية. إنّه جرح وجودي يطال المحاصرين والمتفرجين على السواء، أثبتت الواقعة ما قاله الفيلسوف توماس هوبز إنّ «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان». لقد أُحرقت اتفاقيات حقوق الإنسان على معبر رفح، وأُعدمت البديهيات الإنسانية على أعتاب «مستشفى المعمداني». إنّ الإنسانية تعاني حالياً من الفصام.
كيف نستطيع محو ما تعلّمناه من قيم تربوية وأخلاقية؟ إنّها فخّ كبير، لمَ لم يعلّمونا أنّ القوي دائماً على حقّ؟ لقد قالها الشيخ امام في سبعينيات القرن الماضي: «خلاص خلاص، ما فيش خلاص غير بالقنابل والرصاص، دا منطق العصر الحديث، عصر الزنوج والأميريكان».
إذا قرأنا ديوان «مديح الظل العالي» لدرويش عن حصار بيروت في عام 2025، نكاد أن نستبدل كلمة غزة ببيروت، فيصلح المعنى تماماً: نفس الوحشية ونفس الجروح ونفس التخلّي والتآمر العربي والعالمي: «لا برّ إلا ساعداك، لا بحر إلا الغامض الكحليّ فيك، اسحب ظلالك من بلاط الحاكم العربي، حتى لا يعلّقها وساماً، واكسر ظلالك كلّها كي لا يمدّوها بساطاً أو ظلاماً».
لم تتوقّف المجزرة منذ عام 1948، أكان إعلامياً أو نفسياً أو اقتصادياً. إنّها حرب الغرب على أهل الأرض بتمويل بترودولار خليجي، ما أشبه بيروت الحصار بغزة.
رجال يصنعون الأسلحة من ركام بيوتهم ومن المتفجرات التي أُلقيت على عائلاتهم. يدركون أنّ ما يحملونه في صدورهم ألهم العالم، وسيلهبه، والمعركة ليست مباراة كرة قدم تنتهي بنتيجة خاسر ورابح. ما يفعله الغزيون سيشكّل أثر الفراشة الذي سيجعل كلّ فرد في هذه الأرض يفكّر بمظلوميته. تلك القضية الراهنة والأسمى ستكون مطرقة تدقّ عروش كلّ من سلّم العالم لمنطق القوّة والمال.
غزة ليست قطاعاً، ولا حتى سجناً كبيراً. غزّة مدرسة ثورية لن تتوقّف عن العطاء، ليس لأنّ سكّانها صلبون أو فوق الطبيعة، بل لأنّهم أهل الأرض بكل ما تعني تلك العبارة من معنى.
أخبار سوريا الوطن-الأخبار