عبد الغني طليس
رغم أنه يعيش سجناً اختيارياً بديلاً من السجن الإجباري الذي كان، ولا أدري إذا ما يزال ينتظره، فإن المغني فضل شاكر اخترق الجدران الأربعة المقيم بينها، محلّقاً في الجهات الأربع من العالم العربي، بأغنيات جديدة له، متواضعة التسجيل، ضئيلة التوزيع الموسيقي، لكنها تحمل نكهة جديدة ليس على أغاني فضل المعروفة فقط، بل جديدة أيضاً على المعايير اللامنطقية المتّبَعة اليوم في اختيار الأغاني اللبنانية والعربية.
وذكاءٌ كبير منه أنه اعتمد على أشعار وألحان لأسماء شابة، في نبضها روحية تستلهم التيمة الهادئة في صوت فضل، والتيمة الهادئة في النوع الرومانسي الكلاسيكي الشرقي المُفتَقَد راهناً.
رومانسية أليسّا مثلاً، صارت وراءها لأنها أنهكَتْها بتكرار الجُمل اللحنية التعبيرية، والكلمات والمعاني المعتادَة، ونادراً ما تحظى بإنتاج حديث لها مختلِف عما ألِفناه من صوتها. فضل شاكر أحيا نموذجاً غنائياً معاصِراً من الرومانسية لا تقليدياً، مع إضافة بساطةٍ عميقة وأرْيحيةٍ، ومن هنا «ضربَت» أغانيه على فقر حالها الإنتاجي، لكنْ بغِنى مضمونها الشعري والموسيقي، الذي يحترف البوح الناعم واللطيف!
يرافقك شعور، وأنت تسمع أغاني شاكر الأخيرة، أنك سمعتها منه أو من غيره، قبل حين، لشدة انتمائها وتماسها مع أغان معروفة (تحديداً ألحان زياد الرحباني الأخيرة لأغاني فيروز، وبعضُ نكهةٍ من «طبيعة» فيلمون وهبي).
غير أن نباهة الملحنات والملحنين الشباب (كلام ولحن جُمانة جمال في «إلا وانا معاك» و«صحّاك الشوق» وكلمات سمر الهنيدي في «كيفك ع فراقي» مع تلحين وائل الشرقاوي) هي نباهةٌ تجعل اللحن عموماً يقترب من جُملة محفوظة ثم يبتعد عنها بسرعة قياسية إلى جُملة خاصة بالملحّنة والملحن.
وهذا يتطلّب خبرة في تَصيُّد جُمل غنائية من هنا أو هناك من دون الغرق الكامل فيها، ثم الانطلاق إلى خصوصية ذاتية. والكلمة، الكلمة التي تخترق الأعصاب («صحّاك الشوق من نومَك… وبقلبي تعا كفّي نومك» مطلع مذهل)، ومقام الكورد الموسيقي، هنا، في الأغنية، تكاد تفصله عن مقام البياتي الشرقي الصميم، شَعرةٌ رفيعة، حتى يمكن القول إنّ صوت فضل شاكر فيها يكاد يمزج المقامين في مقام واحد من دون فوارق تُذكر بينهما، اعتماداً على الطريقة الخاطفة في التعبير، وجُملة البداية الآسرة، دُرّة الأغنية، مع أن النوتات الأولى منها هي بالضبط نوتات أغنية سميرة توفيق القديمة «يا هلا بالضيف» مئة في المئة.
أعماله الأخيرة تذكّر بأغان معروفة، وتحديداً ألحان زياد الرحباني الأخيرة لفيروز
في كل حال هي طريقةٌ شائعة في قديم الغناء والموسيقى وتكاد تمحو الحدود بين المقامات رغم وضوح تلك الحدود، وتستدعي انتباهاً شديداً من الملحّن تلافياً لانكشاف مصادر ألحانه، ثمّ التمويه على الأذن والقلب اللذين يسمعان ويتأثران ويتذكّران…
غير أن المهم جدّاً هو التأثيرات التي يُحدثُها نتاج فضل شاكر الجديد في العالم العربي ككل، بثلاث أغان أو أربع. ويتحدث نقّاد مصر عن اكتساح أغانيه الشارع المصري، كما يتحدثون عن إحداث تلك الأغاني موجة من التماثل معها، ومحاكاتها، ما يدلّ على قرب شيوع سكّة غنائية وتلحينية وجدانية تنافس الضجيج والصخب الراقص في الأغاني الرائجة اليوم. كذلك يحدث مع فضل في لبنان.
فهل يُنَبّه، فضل شاكر من أربعةِ جُدرانه وعبر ثلاث أو أربع أغانٍ فقط، عالماً غنائياً عربياً مُهَرولاً خلف التقليعات، ويدعوه إلى رومانسية ممزوجة بالتراث الشرقي الصميم، وبإمكانات صوتية ليست في الضرورة طويلة عريضة، بقدر ما هي تلامس الهمس الحميم المضبوط بحساسية عالية، وبإتقَان وعمق؟
لفضل شاكر ارتباط وثيق بأغاني الهَمس التي تحرّك حناناً ما في النفس. وحنكتُه ملموسة في توظيف الطبقتين الوسطى والدنيا في الحنجرة، بتماسُك وعفوية، أما العليا نسبياً، فيلامسها برفق، ثم يعود من حيث أتى.
كأنه يقول ها أنذا هنا في كل حالات الغناء الذي أجيده ولا أستعرض مساحات ليست لي. وفي اتباع أسلوب التواصل النغَمي المبني على استثمار معطيات الصوت، وإظهار مدى جمالها، لا يبقى للمستمع إلا الانصياع لما تقوله العاطفة الرقراقة، في صوته، بأغانٍ تلتقط حالات معينة، وبكلمات لا فذلكة أو شاعرية فيها، بل حوار تلقائي مع الآخرين، وهوَس موسيقي بالضرب على الأوتار الحساسة في الصدور.
نأتي إلى مشكلته في وَصْمَةِ الإرهاب التي علِقت به، ويتحمّل مسؤوليتها كاملة طالما أنه شارك في اشتباكات مع الجيش اللبناني، وفَرح باستشهاد جنود. لكن حتى لو تبرّأ منها، فهناك تصريح متلفَز يظهر فيه مهدّداً رئيس بلدية صيدا، قائلاً «سأقتل هذا الخنزير بيدي». وهذا وحده كافٍ ووافٍ ليسأل محبو أغانيه وصوته وعاطفيّته الغرامية في الأغاني على الأقل، كيف يمكن فناناً محبوباً على نطاق واسع جداً، وشهير بأغاني المشاعر الفيّاضة، أن ينغمس في تهديد مَن لا يلتقي معه سياسياً، بتلك الساعة من غياب العقل؟
يبدو أنه كما تَحدُث مَوجةٌ عارمة من الودّ معه حين يغني، كانت هناك مَوجة عارمة من الكراهية «الوطنية» حَوله سقط فيها بكامل إرادته وعمله ميدانياً. تذكّروا ماذا كان يحصل في «تلك الأيام» لتعلَموا أنه ضحية كان ينبغي أن يمنعها حبّ الناس لها من «الدخول في التجربة»، فضلاً عن المشكلة الأكبر وهي التناقض بين ما كان يعرفه هؤلاء الناس من جميع المِلَل والنِّحَل عن شخصيّته كمغنّ عاطفي ذائب في الحب، وشخصيّته التي كشفَت عن مِلّة واحدة مستعد هو للموت من أجلها!
إلى أين، من هنا، فضل شاكر؟ كأنما ما يقدّمه في الآونة الأخيرة بداية جديدة تماماً له. ويجب أن تكون. والبقية عنده.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار