آخر الأخبار
الرئيسية » إقتصاد و صناعة » “الدعم الحكومي”.. بوابة للفساد أم أداة للتنمية؟ أرقام صادمة عن حجم السرقات من رقاب الناس

“الدعم الحكومي”.. بوابة للفساد أم أداة للتنمية؟ أرقام صادمة عن حجم السرقات من رقاب الناس

تحقيق هلال عون:

 

أم محمد، أرملة من مصياف، تقول: “اضطررت لبيع أثاث منزلي كي أؤمن مازوت التدفئة، رغم أنني مسجلة ببرنامج الدعم، لكنهم قالوا لي: إن بطاقتي لا تعمل، رغم أنها تعمل، لكن هدفهم هو بيع حصتي في السوق”. وفي أحد أحياء دمشق، انتظرت أم علاء خمس ساعات أمام المخبز، لكنه أغلق أبوابه، وعادت بلا خبز.. واضطرت لشراء الخبز من السوق السوداء، ودفعت ثمن الربطة عدة أضعاف.

 

وعلى بعد أمتار من مسكنها، يعيش أبو أحمد، موظف في التموين، حياة مرفهة بعدما راكم ثروة من تجارة الطحين المدعوم.

 

بين القصص السابقة تتجسد مأساة الدعم الحكومي في النظام البائد، الفقراء يزدادون فقراً، فيما يغتني آخرون بفضل شبكة فساد متشعبة.

 

أربعة أمثلة

أولاً: شبكة فساد وسرقات بالمليارات في قطاع المحروقات، كشفها تحقيق صحفي، ضمن شركة “تكامل” المسؤولة عن توزيع المحروقات المدعومة عبر البطاقة الذكية في حلب.

 

ثانياً: بحسب تحليلات، فإن الطبقات الميسورة تحصل على ما يصل إلى 42 ضعفاً من الدعم الموجه للفقراء عند استهلاك الكهرباء المنزلية، ما يعكس خللاً عميقاً في العدالة الاجتماعية لتوزيع الدعم الحكومي.

 

ثالثاً: سياسات الدعم افتقدت آليات تحصين كرامة المواطن، وضمنت مسارات للسرقات والهدر، من دون وجود مظلة إصلاحية واضحة، ما فجّر فجوة بين التصريحات الرسمية وواقع الفئات المستضعفة.

 

رابعاً: وفق هيومن رايتس ووتش، هناك أرضية سياسية قانونية لتحويل المساعدات إلى أدوات للقمع، إذ يُعاد توجيه الموارد الإنسانية نحو تمويل القمع والعقاب، عوضاً عن تخفيف المعاناة.

 

منظومة فساد

منذ أكثر من خمسين سنة تقريباً، والحكومات السورية المتعاقبة تقوم بعملية دعم بعض السلع الأساسية في الحياة، لكن ذلك الدعم تحول إلى إحدى مكتسبات منظومة الفساد، وفرصة للثراء وتكريس العوز والفقر في المجتمع، بدلاً من بناء مجتمع منتج خالٍ من الفقر والفاقة.

 

ففي الوقت الذي كان يُفترض فيه أن يساهم الدعم في رفع مستوى حياة المواطن السوري، إلا أن النتائج كانت مغايرة، إذ ساهم في تضخم المصالح الشخصية وتكريس الفقر بدلاً من القضاء عليه. وتشير آليات توزيع الدعم، من الخبز إلى الوقود والطاقة، وصولاً إلى السلع الأساسية كالسكر والأرز التي يفترض أن يكون توزيعها منصفاً، تشير إلى أن جزءاً كبيراً من هذه الموارد يذهب لجيوب الفاسدين، تاركاً المواطن في دائرة معاناة مستمرة.

 

 

 

الخبز والوقود

يعدّ قطاع الخبز من أكثر القطاعات التي تلقّت دعماً حكومياً كبيراً، ولكن المشكلة تكمن في أن هذا الدعم لا يصل إلى مستحقيه. وبحسب وزير سابق، فإن السرقات بموضوع الخبز والقمح وحدهما تساوي 3800 مليار ليرة سنوياً!، إذ كان طن الطحين يُسعّر بـ 70 ألف ليرة، ليبيعه اللصوص بـ7 ملايين ليرة في السوق السوداء، أي بزيادة مئة ضعف!. هذه الأموال التي كانت موجهة لتحسين حياة الفقراء، تحولت إلى مكاسب غير مشروعة لشبكات الفساد التي تستفيد من هذا الدعم. الآن وقد أغلقت الحكومة هذا الباب من خلال تخفيف قيم الدعم للخبز، فإنه يجب الانتهاء سريعاً من إجراء إحصائية للأسر الأكثر فقراً في البلاد، لتوزيع جزء مما كان يذهب لجيوب الفاسدين لها. وشهد بلدنا الظاهرة نفسها في قطاع الوقود، إذ يُفترض أن يكون دعم الوقود مُوجهاً إلى المواطنين الذين يعتمدون على المازوت والبنزين في حياتهم اليومية، لكن ما يحدث هو أن هذه المواد المدعومة تُهرّب إلى السوق السوداء، إذ يتم بيعها بأسعار أعلى بكثير، ليحقق التجار المتنفذون، الذين يرتبطون بشبكات سياسية واقتصادية أرباحاً طائلة على حساب المواطن البسيط الذي يعاني من ارتفاع الأسعار.

 

أما في قطاع السلع الأساسية، مثل الزيت والسكر، فإن الظاهرة نفسها تتكرر، إذ يتم استغلال الدعم لتوزيع السلع المدعومة في السوق السوداء، بعيداً عن أيدي المستحقين. لذلك، يمكن القول: إن الدعم الحكومي، الذي يُفترض أن يساعد في تحسين الوضع المعيشي، أصبح بيئة خصبة للفساد، إذ باتت الفرص للاستفادة الشخصية تتجاوز الفوائد العامة المقررة للمواطن.

 

لماذا استمر دعم الفساد؟

العديد من الخبراء الاقتصاديين يعزون سبب استمرار هذه الظاهرة إلى غياب الشفافية وضعف الرقابة، ففي غياب الآليات الرقابية الفعالة، أصبح الدعم أداة لتوسيع دائرة الاستغلال، واستمر الفساد الإداري في كونه أحد أبرز أسباب تدهور توزيع الدعم، إذ يتسلل عبر قنوات غير مشروعة إلى جيوب بعض المسؤولين الذين يستغلون المناصب السياسية والاقتصادية لصالحهم الشخصي.

 

الخبير التنموي والاقتصادي، فراس حداد، يرى أن الأموال المخصصة سنوياً للدعم، كان يمكن أن تقضي على الفقر في سوريا، لو أنها وُزعت مباشرة على الأسر الفقيرة والشرائح المستحقة، وكانت ستنهي العوز بشكل فعلي، ولكن الواقع يُظهر أن هذه الأموال لا تصل إلى الذين يحتاجون إليها. ويوضح حداد أنه على الرغم من تخصيص أموال ضخمة في شكل دعم سلع وأسعار مدعومة، إلا أن غالبية الأسر السورية لا تشعر بتحسن حقيقي في حياتها، بل على العكس، ازدادت الفجوة الاقتصادية بين الطبقات الاجتماعية، وارتفعت معدلات البطالة بشكل غير مسبوق، مما أضعف القدرة الشرائية وعمّق أزمة الفقر.

 

إصلاح سياسات الدعم

من أجل تحقيق الإصلاح، يقول الخبير حداد: يجب أن تكون هناك آليات جديدة لتوزيع الدعم، تكون أكثر عدلاً وشفافية. وأحد أهم الحلول المطروحة هو إنشاء قاعدة بيانات وطنية دقيقة تشمل جميع المواطنين، وتحدد الشرائح المستحقة للدعم بناء على مستوى الدخل والحاجة الفعلية، ويجب أن تُحدّث هذه البيانات باستمرار لضمان وصول الدعم إلى مستحقيه. من الممكن أيضاً تطبيق الرقابة الإلكترونية على آليات توزيع الدعم، بحيث يتم تتبع كميات الدعم وكيفية توزيعها، الأمر الذي سيسهم في تقليل فرص التلاعب بالموارد، ومنع الفاسدين من الاستفادة من الدعم المخصص للفقراء.

 

ويجب أيضاً أن يكون هناك تشريعات قانونية صارمة لمنع المسؤولين المتورطين في قضايا فساد من الإفلات من العقاب، فالحكومة بحاجة إلى محاسبة شفافة للمسؤولين الذين يتلاعبون بموارد الدولة لصالح مصالحهم الشخصية.

 

من الإعالة إلى التنمية

الخبير الاقتصادي، الدكتور إيهاب اسمندر، يرى أن عدم الربط بين الغايات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية أفقد الدعم الكثير من جدواه، بل بالعكس حوله إلى سبب لاستنزاف الكثير من الموارد في سوريا. وحتى يصل الدعم إلى من يستحق بشكل حقيقي نحتاج إلى تغيير النظرة قبل كل شيء للدعم وربطه بالحاجة، التي تتم معرفتها من خلال تكوين قواعد بيانات عن كل السوريين، وتقديم الدعم بما يحتاجونه، مع معالجة سبب الاحتياج. أما أصحاب الأعمال فيتم دعمهم من خلال تأهيل بيئة أعمال محابية لهم توفّر احتياجاتهم فنياً وتسويقياً ومالياً، وما إلى ذلك حتى يتغلبوا على الصعوبات التي تواجههم.

 

ويرى الخبير فراس حداد أن إصلاح سياسات الدعم يجب ألا يقتصر على ضبط الهدر ومكافحة الفساد فحسب، بل يجب أن يشمل تحويل الدعم إلى أداة لتنمية الاقتصاد الوطني، وبدلاً من صرف الأموال على دعم سلع لا تفيد المواطن على المدى الطويل، يمكن تخصيص جزء كبير منها لتوجيه الدعم نحو المشاريع الصغيرة والمتوسطة، التي تساهم في خلق فرص عمل وزيادة الإنتاج المحلي.

 

ويمكن أن يؤدي توجيه الدعم نحو المشاريع الصغيرة إلى تحقيق نتائج ملموسة، إذ توفر هذه المشاريع فرص عمل مباشرة وتساهم في الحد من الفقر، من خلال توفير دخل ثابت للأسرة. كما أن هذه المشاريع يمكن أن تساهم في تقوية الاقتصاد وزيادة الإنتاج المحلي من السلع والخدمات التي يحتاجها المواطن.

 

إحدى الأفكار التي يطرحها الخبير حداد لتحويل الدعم إلى تنمية، هي تقديم قروض ميسرة للمشاريع الصغيرة، بالإضافة إلى توفير الدعم الفني والتسويقي لهذه المشاريع، مما يعزز قدرتها على الاستمرار والنمو، فبدلاً من أن تبقى الفئات الأكثر حاجة مستهلكة فقط، يمكن تحويلها إلى منتجة، وهو ما يسهم في تحقيق تنمية مستدامة في المجتمع.

 

القضاء على الفقر

ومن أجل- حسب حداد، يجب تحقيق تحول حقيقي في الفئات الأكثر فقراً، يجب أن تُنفّذ برامج تدريبية وتنموية لتحفيزهم على دخول سوق العمل بشكل فعال. ويجب أن تركز هذه البرامج على التدريب المهني وإكساب المهارات التي يحتاجها سوق العمل. فمن خلال تدريب الشباب والنساء على مهارات جديدة، يمكن تمكينهم من إيجاد فرص عمل أو بدء مشاريع صغيرة.

 

وأحد الحلول هو إعفاء المشاريع الصغيرة من الضرائب لمدة معينة، بما يساعد أصحاب المشاريع على النمو والتوسع، كما يمكن تخصيص منح مالية للمشاريع الناشئة، خاصة في المناطق التي تعاني من البطالة العالية. من خلال هذه البرامج، يمكن تحويل الفئات المستفيدة من الدعم إلى فئات قادرة على الاكتفاء الذاتي، وبالتالي يقل الاعتماد على الدعم الحكومي ويُصبح المجتمع أكثر استقلالية وإنتاجية.

 

مجتمع منتج

الخبير الإداري والاقتصادي الدكتور عبد المعين مفتاح يرى أن إصلاح آليات الدعم سيساهم في تحقيق نتائج اجتماعية واقتصادية إيجابية على المدى الطويل، منها: انخفاض معدلات الفقر وزيادة فرص العمل من خلال دعم المشاريع الصغيرة.

 

كل ما سبق سيساهم في بناء مجتمع منتج بعيد عن الاعتماد على المساعدات، كما أن تحسين الوضع الاقتصادي سيُؤدي إلى تقليص معدلات الجريمة وزيادة الاستثمار المحلي في قطاعات مثل التكنولوجيا والابتكار.

 

وهذا الإصلاح سيتيح أيضاً فرصاً أكبر للاستثمار في التعليم، مما سيؤدي إلى تحول اجتماعي أوسع في سوريا، بحيث يُصبح المجتمع أكثر قدرة على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية في المستقبل.

 

ويضيف د. مفتاح: يمكننا القول إن الحل يكمن في تحويل الدعم الحكومي من مجرد مساعدات مؤقتة إلى أداة للنمو الاقتصادي المستدام، فالتغييرات في آليات توزيع الدعم، وإدخال الشفافية، وتحويل الدعم نحو المشاريع الإنتاجية، يمكن أن يكون الطريق نحو مجتمع منتج ومستدام.

 

وختم: على الرغم من التحديات، إلا أن البداية الحقيقية تكون دائماً بإصلاحات ملموسة تُعزز من العدالة الاجتماعية.

 

الحلول والبدائل

يرى الخبراء الاقتصاديون والتنمويون أن القضاء على الفقر في سوريا يتطلب تجاوز نموذج الدعم الحكومي التقليدي، الذي تحوّل- كما أثبتت التجربة- إلى باب واسع للفساد، نحو حلول بديلة أكثر عدلاً واستدامة.

 

وأبرز هذه الحلول تتمثل في استبدال الدعم العيني بالتحويلات النقدية المباشرة للأسر الأكثر فقراً، عبر قاعدة بيانات وطنية دقيقة تحدد المستحقين وتُحدَّث بشكل دوري، بما يضمن وصول المساعدة إلى يد الفقير مباشرة من دون وسيط.

 

كما شدّدوا على أهمية توجيه جزء من أموال الدعم نحو تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، عبر قروض ميسّرة وإعفاءات ضريبية وتدريب فني وتسويقي، بما يحوّل الفئات المهمشة من مستهلكة إلى منتجة، ويبرز أيضاً دور المجتمع المدني والجمعيات التعاونية في إدارة مبادرات محلية للخدمات الأساسية، بعيداً عن منظومة الاحتكار والفساد الرسمية، مع التركيز على تمكين المرأة اقتصادياً عبر مشاريع منزلية صغيرة أو فرص عمل رقمية. وفي موازاة ذلك طرحوا خيار الاستثمار في التعليم والتدريب المهني كأداة استراتيجية لكسر حلقة الفقر، من خلال إعداد الشباب والنساء لدخول سوق العمل وتأسيس مشاريعهم الخاصة.

 

البدائل المقترحة لا تقتصر على الدعم المباشر، بل تشمل أيضاً تشريعات صارمة للرقابة والمحاسبة، تضمن الشفافية وتحدّ من سرقة الموارد، ما يفتح المجال أمام تحويل الدعم من مجرد إعانات مؤقتة إلى أداة للتنمية الاقتصادية المستدامة وبناء مجتمع منتج يقل اعتماده على المساعدات.

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١-الثورة

x

‎قد يُعجبك أيضاً

شكوى الدولة أخف وطأة من بكاء مواطنيها والعمل باتجاه الاقتراب من تحقيق الموازنة بينهما ضرورة اجتماعية واقتصادية 

    عبد اللطيف شعبان     يبدو أن تعديل تعرفة الكهرباء على الأبواب باتجاه رفعها بشكل كبيرعما كانت عليه، بحجة ارتفاع تكلفة انتاج الطاقة ...