آخر الأخبار
الرئيسية » إدارة وأبحاث ومبادرات » الأحزاب في سوريا: طموح مشروع أم مسار سابق لأوانه؟

الأحزاب في سوريا: طموح مشروع أم مسار سابق لأوانه؟

 

انس جوده

في كل محطة انتقالية يعلو الصوت ذاته: لنبادر إلى تأسيس أحزاب سياسية جديدة. الفكرة جذّابة، بل مشروعة، وتعبّر عن طموحات كبيرة ورغبات صادقة في إعادة بناء الحياة العامة. ولا شك أنّ من يتحرك في هذا الاتجاه يملك نوايا طيبة وجهوداً تستحق التقدير. لكن السؤال الجوهري يظل مطروحاً: هل يمكن لهذه المحاولات أن تُثمر فعلاً في بلد ممزق بين سلطات عسكرية متعددة، وتخترقه التدخلات الإقليمية، وتفتقر مؤسساته لأبسط مقومات السياسة؟

الجواب المؤلم أنّ هذه الجهود، مهما كانت نياتها حسنة، تصطدم بواقع قاسٍ يجعلها غير منتجة عملياً. فالأرض ما زالت ـ وستبقى لوقت غير قصير ـ موزعة بين قوى الأمر الواقع، والقانون الذي يتيح التنافس غير موجود، والمؤسسات الضرورية لنجاح التجربة الحزبية غائبة. في مثل هذه البيئة لا تتولد أحزاب وطنية راسخة، بل كيانات هشة، إما مرتهنة للخارج، أو محتواة من سلطات تبحث عن شرعية شكلية، أو في أحسن الأحوال محصورة في إصدار بيانات ومؤتمرات صحفية بلا أثر فعلي.

تجارب السنوات الماضية تعزز هذا الاستنتاج. فالكيانات التي وُلدت في الخارج، رغم ما حملته من نوايا صادقة، بقيت بلا قاعدة اجتماعية، أكثر التصاقاً بمصادر تمويلها من ارتباطها بالناس. أما المحاولات التي نشأت في الداخل فواجهت الحصار والمنع وغياب الحماية القانونية، فلم تستطع تجاوز أطر ضيقة من التأثير، لا تختلف في أثرها عن مقالة يكتبها صحفي أو نشاط فردي معزول. والأخطر أنّ أي تمثيل يُبنى على أسس طائفية أو مذهبية، بحثاً عن عصبية جامعة، لا يفتح أفقاً جديداً، بل يكرر الانقسام الأهلي بوسائل مختلفة.

المسار الأجدى اليوم لا يبدأ من “حزب وطني كبير” يولد فجأة، بل من التمثيلات المحلية المدنية–السياسية. هذه التمثيلات تستمد قوتها من كونها نابعة من الناس مباشرة، عبر انتخابات أو توافقات اجتماعية، ومرتبطة بواقعها اليومي على الأرض، قادرة على التفاوض والاشتباك مع سلطات الأمر الواقع من موقع الممثل الفعلي عن مجتمعها. والأهم أنها يمكن أن تتحول تدريجياً إلى نواة لمشروع وطني جامع، لأن السياسة القابلة للحياة لا تُبنى من فوق في فضاء هش، بل من القاعدة صعوداً.

وليس هذا غريباً عن التجربة السورية نفسها. ففي بدايات تأسيس الدولة، حين كانت الدويلات المنبثقة عن الانتداب الفرنسي تبحث عن صيغة جامعة، جرت مفاوضات بين ممثلين حقيقيين عن هذه الكيانات، فنجح السوريون في التوصل إلى توافق وطني أسّس لولادة الجمهورية الأولى. يومها لم تحسم الأحزاب المركزية المسار، بل التمثيل الواقعي على الأرض، والقدرة على الجلوس إلى طاولة واحدة وصياغة تسويات متبادلة. واليوم، وبعد قرن من الزمن، نحن بحاجة إلى استعادة تلك الروح، لكن بصيغة مطوّرة وأكثر التزاماً، وبضمان أن تتحول التوافقات إلى التزامات فعلية، لا مجرد أوراق تفاوض.

لكن الطريق أمام هذه التمثيلات ليس مفروشاً بالورود. فهي مطالبة بأن تحافظ على طابعها المدني وألا تتحول إلى نسخة صغيرة عن سلطة مسلحة، وأن تبقى شفافة وخاضعة للمساءلة أمام مجتمعها، وأن تعكس تنوع المجتمع لا ضيقه، وأن تُبنى على الجغرافيا لا على الطائفة. وهنا تبرز أهمية المحدودية الوظيفية: فالتمثيلات المحلية ليست معنية بحل جميع مشاكل السياسة الوطنية دفعة واحدة. وظيفتها أن تدير الواقع المحلي، ترمّم الثقة، وتبني اللبنات الأولى لمسار أوسع. الخطر لا يكمن في ضعف الطموح، بل في تضخّمه؛ حين تتوهم هذه التمثيلات أنها قادرة على حمل المشروع الوطني بأكمله، تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع اللاعبين الإقليميين أو القوى العسكرية، وهو صدام غير متكافئ يهدد التجربة بالانهيار. المطلوب إذن أن تنتج هذه المبادرات معنى سياسي–مدني واقعي، أصلي وأولي، لا يقوم على مجرد معارضة سلطة أو موالاتها، بل على تمثيل المجتمع والتعبير عن مصالحه، أياً تكن الجهة الحاكمة. لبّ الصراع هو على الشرعية ورفض هيمنة الخطاب الأحادي، وصولاً إلى تشكيل الأساس المتين للحوار الوطني لاحقاً، لا إلى إطلاق حزب وطني سابق لأوانه.

المسار لا يحتاج إلى وصفة سحرية. يبدأ بتأسيس التمثيلات المحلية، ثم الاعتراف المتبادل فيما بينها، ثم بناء منصات تنسيق وطنية غير رسمية، وصولاً إلى صياغة برامج سياسية انتقالية. وعندما تنضج الظروف الأمنية والإقليمية، يمكن لهذا التراكم أن يقود إلى مؤتمر تأسيسي وطني، سواء تم بشكل عرفي أو تراكمي على مدى سنوات، المهم أنه يمنح السوريين في النهاية حقهم في عقد اجتماعي جديد.

الخيار ليس بين طموح الأحزاب وصمت الفراغ، ولا بين تقليد نموذج السلطة القائم أو الانجذاب إلى سردياته، بل بين استعجال التأسيس الفوقي السريع، وبين البناء البطيء والصعب الذي يبدأ من القاعدة. الجهود الحزبية اليوم تُحترم في نياتها وتُقدّر في طموحاتها، لكنها لن تؤتي الثمار التي يرجوها أصحابها. أما التمثيلات المحلية فهي الطريق الأصعب، لكنها أيضاً الطريق الوحيد القادر على حماية السياسة السورية من الغرق ومنحها شرعية حقيقية. فالمستقبل لا يُصنع باللافتات ولا بالبيانات، بل بالشرعية التي يمنحها الناس. والسياسة التي لا تبدأ من وجوههم وأصواتهم ومطالبهم، لن تكون سوى قشرة أخرى قد تكون جميلة ولكنها بدون جذور قوية.
سوريا لك السلام
(اخبار سوريا الوطن 2-صفحة الكاتب)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

اجتماع بين الاتحاد العام ووزارة التنمية الإدارية لتوضيح مخرجات قرار تقليص العقود وطي الاجازات المأجورة

  عقد رئيس الاتحاد العام الأستاذ فواز الأحمد اجتماعاً مع وزير التنمية الإدارية السيد محمد حسان سكاف حيث تم خلال اللقاء مناقشة العديد من الاستفسارات ...