آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » محمد سعيد حسين تشريح البياض وتأويل الغياب في شعريّة اللامكتمل

محمد سعيد حسين تشريح البياض وتأويل الغياب في شعريّة اللامكتمل

من جيل المبدعين في تسعينيات القرن الماضي الذين تناولوا البياض إبداعياً، حين سفك حبره من خلال القصة القصيرة، فأصدر خلال خواتيم ذلك العقد من القرن العشرين أكثر من مجموعة قصصية، لعلّ أهمّها “مُكاشافات زهرة الدُفلى” التي لاقت حفاوةً نقدية حينها، غير أن محمد سعيد حسين لم يكتفِ بالقصة وحدها، فذهب صوب التكثيف، عندما بدأت الحالة “التعبوية” للقصة القصيرة جداً تشتد خلال تلك الفترة، فخوّض مع فرسانها الأوائل بين منتصفي قرنين “العشرين والواحد والعشرين”، قبل أن “يكوّع” باتجاه الشعر.

وللحقيقة؛ فإن محمد سعيد حسين؛ بقي في تنويعات كتابته الأدبية، وفياً للشعر في كلِّ ما أصدر وكتب، حتى وإن جاءت بعضُ إصداراته بغير جنس الشعر. وكأنّ محمد سعيد حسين يُقدّمُ “القصيدة” بلبوساتٍ متنوعة،‏ فهو شاعر يُقدّمُ قصائد بالمحكي من اللغة، وهو عندما كتب القصة القصيرة، لاسيما في مجموعته (مكاشفات زهرة الدُفلى) جاءت “الحكاية” بكامل شعريتها العالية، ولولا الحدث في القصة لتحولت إلى قصيدةً صرفة،  وهكذا كان شأنه عندما خوّض في “الأقصودة” أو كما يُسميها البعضُ “القصة القصيرة جداً”. وفي كلّ ما تقدّم شكّل حالة إبداعية لافتة، تجسّدت في قدرتها على اختراق الأجناس الأدبية وتذويب الحدود بينها، لتصنع عالماً شعرياً مكثفاً يحمل بصمة متفرّدة.

وهنا ومن خلال قراءة تحليلية لبعص من المختارات الشعرية التي أنجزها، يمكننا الكشف عن البنى العميقة التي تقوم عليها رؤيته للعالم، والتي تجعل من البياض والغياب والافتقاد مفاهيم مركزية في مشروعه الإبداعي.

تشريح الغياب في سبعة مشاهد

لم تأتِ انتقالات حسين بين الأجناس الأدبية إلا بحثاً عن شكل أكثر قدرة على احتواء الوجع الإنساني المعاصر. ففي مجموعته القصصية “مكاشفات زهرة الدُفلى”، -على سبيل المثال – كان السرد يحمل بذرة الشعر الكامنة، حيث تحوّلت “الحكاية” إلى فضاءٍ شعري مفتوح. هذا الانزياح لم يكن مجرد تغيير شكلي، بل كان تعبيراً عن رغبة في اختزال العالم في ومضاتٍ سريعة وحادة، كصور فوتوغرافية تلتقط اللحظة الهاربة بكل ما تحمله من دلالات وجودية.

وللدخول في عالمه الإبداعي الذي كثفه في مجالات كتابة: القصيدة، القصة القصيرة، الشعر المحكي، وقليلاً في كتابة المقالة الصحفية.. اخترنا سبعة من نصوصه الشعرية، وكانت هذه القراءة

“يا أمّه، لا تظلميهْ

ردّي لهُ ما ضاع من حليبه،

ثمّ احكمي عليه!

ردّي لهُ ما غيّب النسيانُ من ألعابه،

حتى يعود فاتحاً يديه!”

في هذا النص، يوجّه الخطاب إلى “الأم” كرمز للبدء والحماية. لكنها هنا تُدعى إلى “عدم الظلم”، ما يقلب الصورة النمطية للأمومة. “ردّي له ما ضاع من حليبه” هو استعارة بالغة الدقة عن براءة طفولة مُسروقة، وألعابٍ أخفاها النسيان. الشاعر يطالب باستعادة الماضي كما هو، ببراءته المادية (الحليب) والرمزية (الألعاب). والتكليف الأخير كان “ثم احكمي عليه!”؛ يحمل سخرية مريرة، فكيف تحكم الأم على طفلها؟ إنه سؤال عن العدالة في عالم يسرق الطفولة ثم يحاكم الضحية.

“على طاولةٍ قصيّةٍ، في مقهى عتيق، جلسنا متقابلين، رحلت..

ظلُّ إصبعها لايزالُ ينقرُ على الطاولة.”

في هذا النص الذي هو نموذج للتكثيف القصصي في شكل شعري. المشهد بسيط: طاولة، مقهى عتيق، لقاء يتبعه رحيل. لكن الانزياح يكمن في “ظل إصبعها لا يزال ينقر على الطاولة”.

الظل هنا هو شبح الحضور، استعارة عن الذاكرة التي ترفض الغياب. النقر هو صوت الذاكرة الذي لا يتوقف، حيث يستمر إيقاع حتى بعد توقف اللحظة. القصيدة تصوّر الماضي كحاضر لا يغادر، والغياب كوجود متواصل.

” أن تفاجئك الحياة،

وأنت على أهبّة الحرب،

أنى لك أن تغشاها،

وأنت بالكاد تستجمع ما تبقى من يقينك، لرفع الأشلاء عن بؤس شوارعها !

تعدُّ العابرين إلى موتهم، تدوّن شهقات الأطفال.

تعدُّ وجبةً من صراخ، تُعينك على تبديد كثافة الأحمر الذي يُخضبّ نشيجك اليائس. !

أن تفاجئك الحياة، وأنت في قلب الموت، ما عساك تفعل يا ابن أمي،

أقدس من أن تُحب. ؟!”

هنا ثمة قصيدة نثرية وجودية بامتياز. “أن تفاجئك الحياة، وأنت على أهبة الحرب” – هذه المفارقة هي جوهر النص. كيف تستقبل الحياة وأنت في حالة استنفار للموت؟ الصور هنا عنيفة: “رفع الأشلاء”، “بؤس الشوارع”، “شهقات الأطفال”، “وجبة من صراخ”. هذه هي لغة الحرب التي تلوّن رؤية الحياة. السؤال الأخير “أقدس من أن تحب؟!” هو استفهام إنكاري، يشكك في إمكانية الحب في عالم أصبح الموت فيه طقساً يومياً.

” على حائطٍ من خيبة،

أثبّتُ مسامير الندم،

أعلّقُ عليها روحي،

و.. أخرجُ مهرولاً،

في أثر ندمٍ جديد .”

هنا يُقدّم محمد سعيد حسين يقدّم الندم ليس كحالة عابرة، بل كمشروع حياة. “حائط من خيبة” هو بناء مجازي للفشل، حيث تُثبت “مسامير الندم” كدليل على تثبيت الإخفاقات. لكن المفاجأة هي في “أعلق عليها روحي، وأخرج مهرولاً في أثر ندم جديد”. هنا يتحول الندم إلى وقود للحركة، إلى دافع لا للبقاء في الحزن، بل للبحث عن ندمٍ جديد، وكأن الشاعر يقول: الحياة سلسلة من (الندوم)، والروح تُعلّق على مشانق الخيبة، لكنها تظل تبحث عن أسبابٍ جديدة للندم، كي تبقى حية.

” في حجرتي الضيقة

ليس الظلامُ كلّ ما يملأُ المكان

خوفي أيضاً. !”

وهذا النص هو أقصر النصوص المختارة، وأكثرها إيلاماً. “في حجرتي الضيقة ليس الظلام كل ما يملأ المكان، خوفي أيضاً”. التعبير هنا مباشر وحاد. الظلام ملموس، لكن الخوف أكثر حضوراً. القصيدة تخلق مساحة من (رهاب الاحتجاز)، حيث يصبح الخوف مادة تملأ الفراغات، بل وتتفوق على الظلام في احتلال المكان.

” في غيابكِ

أقشّرُ الدقائق عن داليةِ الوقت،

وأهرقُ خمرتي في خابية الفراغ

وحدي.

أرتّبُ أنوثتكِ على مائدة الانتظار،

وأعدو على مضمار الحلم

باحثاً عن سكرتي

الهاربة.”

هنا ثمة تحفة في تصوير حالة الانتظار. “أقشر الدقائق عن دالية الوقت” – استعارة مدهشة تجعل الزمن عنقوداً من العنب يُقشر بدقة وبطء. “أهرق خمرتي في خابية الفراغ” – الخمرة هنا هي المشاعر والأسى، التي تُهدر في وعاء الفراغ. حيث تتحول الأنثى الغائبة إلى طقسٍ من طقوس الانتظار، وحيث “ترتب أنوثتها على مائدة الانتظار” كأنها طبقٌ يُعدّ للقدوم الذي لا يأتي. “أعدو على مضمار الحلم باحثاً عن سكرتي الهاربة” – هنا يتحول الانتظار إلى ملاحقة لوهم السكرة، أي اللحظة التي تُنسي الألم.

” حين اقتطفتُ من شفتيك

تلك القبلة.

اكتشفت

كم كانت علاقتي بالنار ملتبسة.”

ونختم مع التكثف الإبداعي الباذخ في النص الأخير من هذه النصوص المختارة، وبهذه الصورة المكثفة: “حين اقتطفت من شفتيك تلك القبلة، اكتشفت كم كانت علاقتي بالنار ملتبسة”. القبلة هنا “تُقتطف” كثمرة محرمة، لكنها تحرق بدلاً من أن تُشبع. الالتباس مع النار هو اكتشاف أن العلاقة العاطفية تحمل جذور التدمير الذاتي. النار تُدفئ ولكنها تحرق، وكذلك الحب.

شعرية اللامكتمل

ما يجمع هذه النصوص عند الشاعر محمد سعيد حسين؛ هو هاجس اللامكتمل والعيش في حياة تبقى “قاب قوسين أو أدنى” دون أن تصل إلى خواتيمها المشتهاة. هنا الطفولة التي تحتاج إلى استكمال، اللقاء الذي لم يكتمل، الحياة التي تفاجئنا قبل أن نكمل استعدادنا لها، الروح المعلقة على حائط الخيبة، الانتظار الذي لا ينتهي، والقبلة التي تترك جرحاً بدلاً من أن تمنح اكتمالاً. هنا محمد سعيد حسين يكتب من داخل شرخ الوجود، حيث الإنسان كائن ناقص يبحث عن اكتمال لا يأتي، أو كحسرة اللقمة التي باب الفم، ومن ثمّ تضيعُ فجأةً.

بين المحكي والتكثيف المجازي

حسين “يُقدم القصيدة بلبوسات متنوعة” كما أسلفنا. فهو يستخدمُ لغةً قريبة من المحكي أحياناً، لكنها تحمل دائماً كثافة مجازية عالية. “ردي له ما ضاع من حليبه” لغة يومية لكنها تحمل رمزية عميقة. “أقشر الدقائق عن دالية الوقت” لغة شعرية صرفة. هذا الانزياح بين المستويات اللغوية هو ما يجعل شعره يقبل على القارئ بسهولة، لكنه يطلب منه الغوص في أعماقه.

محمد سعيد حسين هو أحد فرسان القصة القصيرة جداً والشعر الذين خرجوا من رحم تسعينيات القرن العشرين، حاملين معهم جراح الحقبة وأسئلتها الوجودية. وتُمثّل نصوصه شظايا من سيرة إنسان يعيش في زمن مليء بالبياضات – بياض الذاكرة، بياض الانتظار، بياض المشاعر التي لم تعد تعرف طريقها إلى البراءة. وقراءة شعره هي رحلة في تشريح الغياب، ومحاولة لتأويل الصمت الذي يختبئ خلف ستار من رمزية الكلمة والمفردات.

اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حكايات على أرفف الرياض.. الموسوعة السعودية للسينما تعبر بالترجمة نحو ريادة عربية في صناعة الكتاب السينمائي

تخطو الموسوعة السعودية للسينما خطوة جديدة نحو إثراء المشهد الثقافي، حيث تعلن عن إصدار 22 كتاباً مترجماً من أربع لغات كبرى: الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية، ...