عبدالله سليمان علي
ما كان يُعد حتى وقت قريب ضرباً من الخيال أصبح واقعاً سياسياً يفرض إعادة قراءة للعلاقة بين واشنطن ودمشق. فمع سقوط نظام الأسد وصعود حكومة أحمد الشرع، جاءت زيارة الأدميرال براد كوبر، قائد القيادة المركزية الأميركية، إلى العاصمة السورية الجمعة لتشكل لحظة فارقة. لم تكن الزيارة لقاءً بروتوكولياً، بل بدت بمثابة إعلان غير رسمي عن بداية مرحلة جديدة من التنسيق الأمني، وربما الشراكة الدفاعية، بين الطرفين.
هذه الزيارة لم تأتِ من فراغ، بل سبقتها إشارات متراكمة من الميدان والتشريع. ففي أواخر تموز/يوليو، نفذت القوات الأميركية عملية إنزال في مدينة الباب مستهدفةً قيادياً بارزاً في تنظيم “داعش”، ثم أعقبتها عملية ثانية في أطمة شمال إدلب.
أن تتم هاتان العمليتان في مناطق تخضع لسيطرة الحكومة الجديدة، ومن دون اعتراض رسمي، كشف عن تحول في قواعد الاشتباك، أو عن تفاهم ضمني يسمح لواشنطن بالعمل داخل أراضي الدولة السورية.
تزامنت العملية الثانية مع صدور تقرير لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأميركي، الذي لم يكتفِ بالإشادة بخطوات الحكومة السورية في اعتراض شحنات أسلحة إلى “حزب الله” وتفكيك شبكات المخدرات وتقليص نفوذ إيران وروسيا فحسب، بل أوصى وزارة الدفاع والقيادة المركزية بتقديم إحاطة أمام الكونغرس مطلع العام المقبل بشأن إمكان عقد شراكة دفاعية مع دمشق. وللمرة الأولى منذ اندلاع الأزمة يُذكر اسم “الحكومة السورية” في وثيقة تشريعية أميركية بهذه الصراحة، في إشارة إلى الانتقال من العزلة إلى الاعتراف الوظيفي.
إعادة هندسة التوازنات
بعد أيام فقط، ظهرت تسريبات غير رسمية تحدثت عن ملامح اتفاق أمني مرحلي بين دمشق وتل أبيب برعاية أميركية، يُفترض أن يسبق خطاب الشرع في الأمم المتحدة. ورغم غياب أي تأكيد رسمي، يعكس تداول هذه الرؤية عدم اكتفاء واشنطن بشرعنة وجودها العسكري، بل سعيها إلى إعادة هندسة التوازنات الإقليمية، وإشراك إسرائيل في ترتيبات أمنية جديدة تثير جدلاً واسعاً.
الرئيس السوري أحمد الشرع وعقيلته لطيفة الدروبي في استقبال الأدميرال الأميركي برادلي كوبر وعقيلته بقصر الشعب بدمشق (حساب الرئاسة السورية على منصة أكس)
الرئيس السوري أحمد الشرع وعقيلته لطيفة الدروبي في استقبال الأدميرال الأميركي برادلي كوبر وعقيلته بقصر الشعب بدمشق (حساب الرئاسة السورية على منصة أكس)
ثم جاءت لحظة الإعلان العملي: استقبل الرئيس الشرع وزوجته لطيفة الدروبي الأميرال كوبر وزوجته سوزان، والمبعوث الأميركي الخاص توم برّاك والوفد المرافق، في قصر الشعب بدمشق، بحضور وزراء ومسؤولين كبار. الرئاسة السورية نفسها نشرت صوراً للقاء على حسابها بمنصة “إكس”، وأكدت أنه “عكس الأجواء الإيجابية والحرص المشترك على تعزيز الشراكة الاستراتيجية، وتوسيع قنوات التواصل بين دمشق وواشنطن”.
من جانبها، شكرت القيادة المركزية الأميركية الشرع على دعمه في مواجهة “داعش”، معتبرة أن القضاء على التنظيم داخل سوريا يساهم في تقليل خطر الهجمات ضد الولايات المتحدة، ويأتي في إطار رؤية الرئيس الأميركي دونالد ترامب لشرق أوسط مزدهر، ولسوريا مستقرة تنعم بالسلام، داخلياً ومع جيرانها. كما أشاد الوفد الأميركي بجهود دمشق في دعم عمليات استعادة مواطنين أميركيين من داخل البلاد، ما أضفى على الزيارة بعداً إنسانياً. واتفق الطرفان على عقد اجتماعات مستقبلية لضمان استمرار التنسيق، في مؤشر على أن العلاقة لم تعد حدثاً عابراً، بل صارت مساراً مفتوحاً.
لم تكن زيارة كوبر معزولة، بل تزامنت مع أجواء اتسمت بتعدد الرسائل الموجهة إلى “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد). فأنقرة أعلنت بوضوح استعدادها لدعم عمليات سورية محدودة ضدها، فيما لوّح برّاك بتصريحات تدعوها إلى تسريع ترتيب أوضاعها. في المقابل، جاءت زيارة كوبر لقيادة “قسد” قبل فترة قصيرة لتُقرأ كنوع من التطمين، كأنها تعكس اتجاهاً داخل الإدارة الأميركية يفضل استمرار الشراكة معها في مواجهة “داعش”. قد يشير هذا التباين بين لهجة براك وخطوات كوبر إلى اختلاف داخل واشنطن في كيفية التعامل مع “قسد”، ما يضاعف حالة الغموض بشأن موقعها في المرحلة المقبلة.
في الوقت ذاته، برز البعد الإسرائيلي أشد وضوحاً مع التسريبات عن اتفاق أمني مرحلي. فإدخال إسرائيل في التفاهمات يوسّع الإطار من الداخل السوري إلى المحيط الإقليمي، لكنه يطرح أسئلة صعبة. داخلياً، قد تواجه الحكومة الإسرائيلية انتقادات لكونها تمنح دمشق اعترافاً غير مسبوق، وخارجياً قد يُنظر إلى أي محور أميركي – إسرائيلي – سوري على أنه تهديد مباشر لإيران وتحدٍ لروسيا، ما يزيد من تعقيد التوازنات.
تحولات إقليمية
لكن، خلف هذه الوقائع تكمن تحولات أعمق. فالمشهد يُعيد تموضع سوريا ودورها في المنطقة، ليس بصفتها مجرد ساحة نفوذ متنازعاً عليها، بل بصفتها طرفاً يُعاد إدماجه في ترتيبات خارجية تشمل واشنطن وأنقرة، وربما تل أبيب. هذه الترتيبات تمنح الحكومة اعترافاً وظيفياً جديداً، لكنها في الوقت ذاته تضعها أمام تحديات معقدة: هل تستطيع تحويل هذا التموضع إلى دور يحمي السوريين ويخدم مصالحهم، أم ستجد نفسها مندمجة في ترتيبات أكبر منها تُدار من الخارج؟
وهنا، لا يقتصر التحدي على موازنة الضغوط الإقليمية فحسب، بل يشمل أيضاً ضرورة أن يُرفق البعد الأمني بخطوات جدية على صعيد العدالة والمساءلة، حتى لا يتحول الاعتراف الجديد إلى غطاء لإعادة إنتاج المظالم القديمة تحت عنوان مكافحة الإرهاب.
أما إيران، فتعتبر هذا المسار تصاعداً في مستوى التهديد لما بقي لها من نفوذ في المنطقة، حتى وإن كان حضورها الرسمي قد تراجع، ما قد يجعلها أشد تمسكاً بشبكاتها غير النظامية كورقة ضغط. وتسعى روسيا بدورها إلى تعويض انحسار دورها السياسي من خلال توسيع صفقاتها الاقتصادية، وتعزيز وجودها العسكري في الساحل والبادية.
في النهاية، بين عمليتي الإنزال، وتقرير الكونغرس، وزيارة كوبر وما حملته من رسائل رسمية، وضغوط أنقرة على “قسد”، والتسريبات عن البعد الإسرائيلي، يتضح أن ما نشهده ليس خطوات منفصلة بل خيوط متشابكة لمسار واحد. وما سيقوله الشرع في نيويورك، وما ستتضمنه الإحاطة الأميركية في شباط/فبراير المقبل، سيكونان بمثابة الاختبار الحقيقي: إما شراكة دفاعية راسخة تعيد تحديد موقع دمشق، وإما تفاهمات عابرة سرعان ما تنكسر تحت ثقل التناقضات الإقليمية والداخلية، وما إذا كانت هذه التفاهمات تُبنى على أسس قابلة للاستدامة، أم هي مجرد استجابة ظرفية لتحولات إقليمية موقتة.
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار