أجراس الفاتيكان تدقّ لا احتفالاً بقدّاس، أو تقديساً لطوباويين، بل لنداء بوجه ما يحصل في العالم وما سيحصل في المستقبل. الحرب تخنق دولاً عدّة، والنزاعات تمزّقها، وما بين هذه الأحداث تبزر الفجوة بين الأغنياء والفقراء. قضية حملها البابا لاوون الرابع عشر في أول مقابلة صحافية له منذ جلوسه على كرسي بطرس في أيار/مايو، أجرتها كبيرة المراسلين في موقع “Crux” الكاثوليكي إليز ألين.
يقول يسوع المعلّم: “لا يَقْدِرُ عَبْدٌ أَنْ يَعْبُدَ رَبَّين. فَإِمَّا يُبْغِضُ الوَاحِدَ وَيُحِبُّ الآخَر، أَو يُلازِمُ الوَاحِدَ وَيرْذُلُ الآخَر. لا تَقْدِرُون أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَالمَال”. وانطلاقاً من هذه الآية، تأتي صرخة البابا لاوون للعالم إذ عبّر عن مخاوفه بشأن أوضاع ذوي الدخل المنخفض حول العالم، واستنكر الأجور الضخمة التي يتقاضاها كبار المديرين التنفيذيّين.
رأى البابا أن “أحد العوامل البارزة للانقسام العالمي هو الفجوة التي تتّسع باستمرار بين مستويات دخل الطبقة العاملة وبين الأموال التي يحصل عليها الأثرياء”، مضيفاً: “أنا قلق من أن ينسى العالم قيمة الحياة البشرية وقيمة العائلة وقيمة المجتمع. فإذا فقدنا الإحساس بتلك القيم، فما الذي يبقى مهمّاً؟”، متابعاً حديثه: “كان المديرون التنفيذيون قبل 60 عاماً يتقاضون 4 إلى 6 أضعاف ما يتقاضاه العمّال. أمّا آخر رقم رأيته، فهو 600 ضعف ما يحصل عليه العمّال العاديون”.
وقال إنّه سمع أن رئيس شركة “تسلا” ومالك منصّة “إكس” إيلون ماسك سيكون أول اثنين من أصحاب التريليون في العالم، متسائلاً: “ماذا يعني ذلك؟ وعمّ يعبّر؟ إذا حصل ذلك الشيء فسنكون في ورطة كبيرة”.
“صورة واقعية”
يُعطي البابا لاوون الرابع عشر أهميّة كبرى لهذا الملف. وقد برز هذا المنحى منذ انتخابه مع اتّخاذه اسم “ليو” تكريماً للبابا لاوون الثالث عشر في القرن التاسع عشر، الذي دافع عن تحسين الأجور وحقوق النقابات لعمّال المصانع. عُرف هذا البابا بتكريسه للسياسات والعدالة الاجتماعية، وأصدر رسالة عامّة بعنوان “Rerum Novarum” ، تضمّنت مواضيع مثل حقوق العمّال والعدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان. وقد شكّلت وثيقة محورية في خطاب الكنيسة.
يقول الأب البروفيسور باسم الراعي: “إذا عدنا إلى القرن التاسع عشر وإلى قضية المسألة الاجتماعية، فسنرى أنّ البابا لاوون الثالث عشر في الرسالة حدّد خطرين كبيرين على العالم: الرأسمالية والشيوعية. وضعهما في خانة واحدة، لأنّ كلاً منهما ينطلق من منظور اقتصاديّ ينتهي في نهاية المطاف إلى المساس بكرامة الإنسان”.
ويضيف في حديث لـ”النهار”: “هذا الموقف ما زال قائماً حتى اليوم: تركُ الاقتصاد كما نعيشه اليوم على طبيعته المتفلّتة، أي الليبرالية الحرّة المتفلّتة إلّا من القيود القانونية، له تبعات إذ يتيح لمن يملك الفرص الأكثر أن يحصد الحظوظ الكبرى والقدرة الكبرى. والنتيجة أنّنا نتقدّم نحو عالم تتّسع فيه الفجوة بين الأغنياء والفقراء”.
تعليقاً على حديث البابا، يعتبر الراعي أن “الصورة التي يقدّمها واقعية. إنّ الحرمان من الفرص ليس دائماً بسبب الطبيعة أو القدر بل نتيجة سياسات في الأغلب. فالفقر في العالم الثالث مثلاً تقف وراءه قرارات سياسية كبرى”. ويستطرد: “هذا يذكّرنا بأفلام تناولت مستقبل البشرية في أعوام 2000 و2035 و2040 و2050، والتي أجمعت على صورة عالم تتحكّم به أقلّية، بينما الأكثرية خاضعة لصراعات هذه الأقلّيات على البقاء”.
ويستذكر الأب البروفيسور البابا الراحل فرنسيس “الذي أضاء على قضية الهجرة قائلاً: إذا لم ترغب دول العالم في استمرار الهجرة، فعليها أن توفّر للأشخاص أنظمة قابلة للحياة في داخل أوطانها، كي تعيش الناس بكرامتها”.
أول تريليون؟ ماذا بعد؟
تحتّل ثروة ماسك صدارة الأخبار العالمية خصوصاً مع اقتراح مجلس إدارة “تسلا” أخيراً خطّة تعويضات للملياردير الأميركي، تبلغ قيمتها تريليون دولار، ما يصل إلى 12% من أسهم “تسلا”، عند تحقيق بعض “الأهداف الكبيرة”. ومن المقرّر عقد تصويت للمساهمين في تشرين الثاني/نوفمبر.
وافق مجلس إدارة “تسلا” في وقت سابق من هذا العام على حزمة تعويضات موقتة لماسك بقيمة 29 مليار دولار على شكل أسهم مقيّدة، تهدف إلى إبقائه على رأس الشركة حتى عام 2030 على الأقلّ، مع انتقال الشركة إلى استراتيجية تعتمد على الذكاء الاصطناعي.
وفي هذا السياق، أظهر تقرير صادر عن أكاديمية “Informa Connect” أن ماسك في طريقه ليصبح أول تريليونير في العالم بحلول 2027 بسبب ثروته الآخذة في النمو، والتي تتّجه إلى أن تصبح رقماً مكوّناً من 13 خانة.
يرى الأب الراعي أن “تعليق البابا لاوون على ماسك كان تعبيراً واضحاً عن المفاجأة من أنّ شخصاً واحداً في العالم يمكن أن يمتلك كلّ هذه القدرات. وحتّى لو جاء ذلك عبر الاستثمار، فهذا لا يجعل الأمر مبرَّراً ومحقّاً”.
ويردف: “في تعليم الكنيسة الاجتماعية هناك مبدأ يُعرف بمشاعية الملكية، أي أنّ خيرات الأرض وُجدت للجميع. وبالتالي، أيّ احتكار يحرم الناس من القدرات لتطوير ذاتها يُعدّ بحدّ ذاته فعل خطيئة. من هنا، موقف البابا ليس أمراً عابراً بل تحذير من خطورة أن يصل إنسان واحد خلال فترة قصيرة إلى هذه المليارات، ولو استثُمرت هذه الأموال في توظيف الناس، لأنّها لا تُلغي الإشكالية”.
ويُتابع: “لنا أن نتذكّر كيف تأتي شركات كبرى من أوروبا أو أميركا أو الصين لتفتح معامل في دول فقيرة مثل بنغلادش، وتشغّل العمّال بظروف بائسة جداً وبأجور زهيدة، بينما تحقّق أرباحاً هائلة من بيع المنتجات في الأسواق العالمية. هنا تكمن الورطة الكبيرة”.
من يصغي؟
يلاحظ الأب الراعي أن “اليوم، هناك من يصغي لصرخة البابا. فقد نشأ تيار من رجال الأعمال الكاثوليك وأصحاب الإرادة الصالحة -بحسب تسمية الكنيسة- الرافضين لهذا النهج الاقتصادي العالمي. هذا التيّار آخذ في النمو، ويؤثّر في أفكار واتّجاهات اقتصادية، لكنّه لن يظهر على الساحة الدولية ما لم يحظَ بمدى سياسيّ”.
ويشرح: “في زمن البابا الراحل بنديكتوس، جرت محاولات لطرح مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعيّ، أي محاولة التوازن بين حرّية الاقتصاد الليبرالي والبُعد الاجتماعي. بعض جوانبه موجود في الفكر الأوروبي لكنّه يحتاج إلى وقت ليصبح تياراً مؤثّراً عالمياً”.
وختم: “أمام هذا الواقع، دور الكنيسة أن تكون شاهدة بقِيَمها ومؤسساتها ضدّ هذه الصورة، وأن تغرس في النفوس الإيمان بإمكانية العيش بأخوّة وتضامن وتبادل، بعيداً عن نزعة الجموح للسيطرة الفردية. الكنيسة تستطيع أن تقدّم نموذجاً من الزهد والاعتدال، كما جسّدته مسيرة البابوات السابقين: يوحنا بولس الثاني، بولس السادس، بنديكتوس، فرنسيس، وصولاً إلى البابا الحالي، بالزهد وعدم السعي إلى السيطرة وحب العظمة. إنّ العالم اليوم بحاجة إلى هذه الشهادة أكثر من أي وقت مضى”.
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار