يحيى دبوق
أعلنت مجموعة من الدول الغربية، أبرزها فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا وبلجيكا ولوكسمبورغ، اعترافاً رسميّاً ولكن مشروطاً بدولة فلسطينية. إلا أن هذا الإعلان، وعلى رغم رمزيّته، لن يُغيّر الوقائع على الأرض؛ فلا عقوبات اقتصادية على الكيان الإسرائيلي، ولا حظر أسلحة، ولا تجميد للتعاون الأمني، ولا محاكمات جنائية معلنة، وكذلك لا تهديدات ملموسة بعقوبات مستقبلية. وعليه، فإن ما حدث إلى الآن، لا يشكّل ضغطاً حقيقيّاً على إسرائيل، بل يمثل إعلاناً سياسيّاً فارغاً من المضمون العملي، يمكن أن يُستخدم كأداة تبريرية داخلية لتخفيف الشعور بالذنب – إنْ وجد – تجاه المشاركة الغربية المباشرة في التدمير المنهجي لحياة الفلسطينيين.
وتَعرف إسرائيل جيداً أن الدول المعترِفة، لن تُوقف توريد الأسلحة إليها، ولن تُطالبها بوقف الاستيطان، ولن تفرض أيّ عقوبات على أيٍّ من مؤسّساتها، مهما بلغ حجم الانتهاكات. وهكذا، لا تعود الاعترافات ردّاً على انتهاكات حقوق الإنسان، ولا محاولة لمنع الإبادة، ولا دعماً لحقّ تقرير المصير، بل ردود فعل متأخّرة، تُستخدم لتبرير موقف الغرب وتواطؤه.
أيضاً، لا تخشى إسرائيل هذه الخطوات، لأنها تدرك أن معظمها لم يصدر عن دول جديدة، بل عن دول كانت اعترفت بفلسطين عام 1988، ثم انسحبت لاحقاً بلا تبعات. فبلجيكا ومعها أندورا، مثلاً، وعلى رغم إعلانهما الاعتراف، لكنهما ربطتا تنفيذه بشروط لا يمكن تحقيقها إلّا بعد اكتمال التدمير المنهجي لقطاع غزة: إطلاق سراح الرهائن، وتفكيك حركة «حماس». وذلك، لا يُعدّ ضغطاً، بل يُعدّ تأجيلاً أو تجميداً مقنّعاً لخطوة الاعتراف نفسها.
أمّا فرنسا، التي تقود الموجة، فهي تُعلّق اعترافها الفعلي بشرط مماثل: إطلاق سراح الرهائن قبل فتح سفارتها في الأراضي الفلسطينية. وفي كلتا الحالتَين، فإن الشروط لا توجّه إلى إسرائيل، بل إلى الفلسطينيين، في وقت يُقتل فيه المئات منهم يوميّاً، وتُدمّر فيه مؤسساتهم، وتُمنع أيّ مبادرة سياسية تجاههم.
والاعترافات، في سياقها المتقدّم، ليست أداة تغيير، بل أداة تجميل؛ ولأن إسرائيل تدرك ذلك جيداً، فهي لا تُغيّر من سياساتها شيئاً، ولا تُعيد تقييم استراتيجياتها، بل تواصل حربها بلا هوادة. وفي الداخل، تُصرّ الحكومة الإسرائيلية على تكرار ما تقول إنه «مكافأة للإرهاب»، علماً أنها عبارة تُستخدم كردّ فعل على أيّ تصريح أو موقف غربي مهما كان رمزيّاً أو محدوداً.
إلّا أن هذا الخطاب لم يَعُد مجرّد شعار، بل تحوّل إلى إعلان عن رؤية شاملة، جلَّاها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، بقوله: «لديّ رسالة واضحة إلى القادة الذين يعترفون بدولة فلسطينية بعد المذبحة المروّعة في السابع من أكتوبر (2023)، أنتم تمنحون جائزة ضخمة للإرهاب»، مضيفاً: «لن تُقام دولة فلسطينية غرب الأردن. وعلى مدى سنوات، منعت قيام هذه الدولة الإرهابية (ووقفت) أمام ضغوط هائلة من الداخل والخارج. ضاعفنا الاستيطان اليهودي في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وسنواصل بهذه الطريقة».
يمكن الاعترافات أن تُستخدم كأداة تبريرية داخلية لتخفيف الشعور بالذنب إنْ وجد
على أنه قد تكون للمؤسستَين الأمنية والدبلوماسية رؤية مختلفة، مفادها أن ثمّة تهديداً حقيقيّاً، ليس في الاعتراف نفسه، بل في تآكل الحواجز الدبلوماسية التي كانت تحمي إسرائيل من تبعات «إزعاجية» وملاحقات و»تشويه صورة»، إضافة الى تجاوز خطوط حمر كانت تُعتبر مقدّسة، من مثل إدانة تل أبيب أو التصريح ضدّها، وتجنّب الحديث عن «الاحتلال». إلّا أن تينك المؤسستَين لا تمتلكان بديلاً ولا خطّة سياسية مغايرة، بل تكتفيان بإصدار تحذيرات لا تُغيّر شيئاً.
أمّا الرأي العام الإسرائيلي، فلا يمكن تقدير توجّهه بمعزل عن وسائل الإعلام العبرية، التي باتت هي المُصَنِّع شبه الأوحد له، علماً أنها تتعامل مع الاعترافات بأسلوب متمايز: تجنّب التحليل الاستراتيجي، والامتناع عن استقراء التبعات على الأمن أو الاقتصاد أو الدبلوماسية، وتحويل التغطية إلى نقل إخباري جاف كأنّ الحدث لا يستحقّ تفسيراً وتحليلاً. ومن جهتهم، ينقسم المحلّلون بين من يدافع عن الحكومة بحماسة ويرى في الاعتراف مؤامرة، ومن ينتقدها لكنه يتجنّب أيّ تأييد للخطوة الغربية خشية أن يُصنّف كمَن يصطفّ إلى جانب الفلسطينيين.
وفي ذلك الانقسام، للمفارقة، انعكاس لإجماع سياسي شبه كامل، عنوانه رفض وجود دولة فلسطينية، ورفض الاعتراف بالفلسطينيين كشعب له حقّ تقرير المصير. وهذا الإجماع يشمل النخبة، والأحزاب، والإعلام، والمجتمع من أقصى اليمين إلى ما يُسمّى بـ»اليسار الصهيوني».
رسميّاً، لا توجد استراتيجية إسرائيلية فعّالة، بل ثلاثة ردود فعل تكتيكية، لا تهدف إلى تغيير السياسة، بل إلى إعطاء انطباعات:
1. الاستمرار في الخطاب الرمزي: «هذه مكافأة للإرهاب»، و»جائزة لحركة حماس».
2. الاعتماد على واشنطن: على رغم أن دعمها لم يَعُد مطلَقاً، وأنها لا تحارب الاعترافات الغربية بفلسطين بشراسة – وهو ما يُثير قلقاً نسبيّاً في تل أبيب -، إلا أن ذلك لا يُغيّر الواقع.
3. التهديد بالانسحاب من المنظمات الدولية أو قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدول التي تعترف بفلسطين، لكن حتى هذه الإجراءات العقابية لا تغيّر من السياقات شيئاً، وإنْ كانت تسمح للقيادة الإسرائيلية بالقول إنها «فعلت ما عليها»، علماً أن هكذا إجراءات باتت مستعصية وصعبة، كون «الموجة» جامعة ولم تَعُد مقتصرة على دول محدودة.
في المحصّلة، تدرك إسرائيل أن ما يجري لن يُغيّر شيئاً، وردّ فعلها مبنيّ على هذا الأساس؛ فالاعتراف بدولة فلسطينية، بلا جهد فعليّ من أيّ طرف لإنشائها، لا يُشكّل تهديداً، بل تذكيراً بأن الدول الغربية، من دون الولايات المتحدة، لم تَعُد قادرة وربّما لا تريد، فعل أيّ شيء للجم إسرائيل. لكنّ الغرب يذكّر الجميع ونفسه في المقدّمة، أنه لا يزال قادراً على التظاهر بأنه يفعل شيئاً.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار