غسان القيم
في قلب كل قرية من قرى ريف الساحل السوري كان هناك مكان لا تخطئه العين ولا يغيب عن ذاكرة من عاش طفولته بين تلك التلال الخضراء… إنه “الباطوس”.
ليس مجرد قطعة حجر بل شاهدٌ صامت على مواسم الكدح ومسرحٌ مفتوح لحكايات الجدّات وضحكات الأطفال وعرق الفلاحين.
الباطوس كما يعرفه أهل الساحل هو حجر دائري عريض مصقولٌ بفعل الزمن وسواعد الرجال توضع فوقه كميات من الزيتون أو القمح ليُفرد عليها دولاب حجري ثقيل يُدار إما يدويًا أو بوساطة حيوان وغالبًا ما يكون البغل هو الشريك الدائم في هذه الرحلة البطيئة والدقيقة.
في موسم القطاف كانت العائلات تتجمّع حول الباطوس تُفرغ سلال الزيتون الأسود اللامع فوق سطحه وتبدأ عملية الرصّ حيث يُعصر الزيتون شيئًا فشيئًا وتُستخلص “الزَفْرة” الأولى قبل نقله إلى المعصرة. كانت العملية تُشكّل طقسًا قرويًا بامتياز فيه مشاركة وتعاون وكان يُعدّ خطوة مهمة قبل الوصول إلى الذهب الأخضر زيت الزيتون الذي يُخزن في الجرار الفخارية ويُعدّ فخر كل بيت.
ولم يقتصر دور الباطوس على الزيتون فحسب ففي مواسم الحصاد كان يُستخدم لتقشير القمح أو ما يُعرف محليًا بـ”الدرُس”. كانت السنابل تُنثر على سطحه ويدور عليه الحجر الثقيل حتى تتفكك الحبوب عن قشورها، في مشهد يترافق مع غناء النسوة وأصوات الأولاد المتجمعين حول أمهاتهم.
صحيح أن المعاصر الحديثة قد أخذت مكان الباطوس اليوم وأن آلات الدّرس قد غزت الحقول لكنّ الباطوس ما زال محفورًا في الذاكرة تمامًا كما حفر هو على مر السنين أثره في أرض القرية.
هو أكثر من أداة… هو قطعة من روح الأرض فصلٌ من حكاية المكان وصوتٌ من زمنٍ كانت فيه الحياة أبسط لكنها أعمق معنى وأغزر دفئًا..
دمتم ذاكرة لا تمحى..
عاشق اوغاريت.. غسان القيم..
(اخبار سوريا الوطن 2-صفحة الكاتب)