عماد ياغي
البحر يكتب ما يتهرّب منه البرّ
في البحر دائماً شيء من الحقيقة. الأمواج لا تعرف المجاملة، والرياح لا تعترف بالحدود، والسفن حين تبحر لا تستأذن وزارات الخارجية ولا بيانات القمم. هناك، في عمق المتوسط، وُلد أسطول الصمود العالمي، كصرخة إنسانية تحمل على ألواحه معاناة غزة، وتحاول أن تفتح نافذة حرية في جدار الحصار.
غير أنّ ما يوجع أكثر من رصاص الطائرات المُسيّرة الإسرائيلية، هو صمت العواصم العربية، ذلك الصمت الذي يوشك أن يكون تواطؤاً، أو على الأقل انسحاباً من واجب طالما ادّعت الأنظمة أنه في صميم وجدانها. وبينما يقف المتضامنون من آسيا وأوروبا وأميركا اللاتينية على متن السفن، يلوّحون للحرية، يغرق الموقف العربي في وحول بيانات باردة لا تُطعم جائعاً ولا تفكّ حصاراً.
ولادة الأسطول: من إرادة الشعوب لا من قرارات الحكومات
أسطول الصمود لم يخرج من رحم جامعة عربية متعبة ولا من مجلس وزراء عربي يفضّل الحسابات على المبادئ. وُلد من إرادة الشعوب؛ من اتحادات طالبيّة، وحركات شعبية، ومنظّمات مدنية، وتحالفات إنسانية قرّرت أن تبحر من جنوة وبرشلونة وتونس وماليزيا.
من إيطاليا حملت السفن أدوية وأغذية، ومن إسبانيا جاءت الأعلام واللافتات، ومن اليونان انضم المتضامنون، ومن آسيا أبحرت قوافل تحمل اسم «نوسانتارا» رمزاً لصمود شعوب الشرق. لم يسأل هؤلاء المتطوّعون عن موازين القوى ولا عن المفاوضات العقيمة. سألوا فقط: كيف يمكن أن يصل صوت غزة إلى العالم؟
إنها ملحمة تُشبه شعر المتنبي حين يقول: «إذا غامرتَ في شرفٍ مروم…». مغامرة تحاول أن تُحطّم المعادلة التي جعلت غزة محاصَرة من البرّ والبحر والسماء، ومُحاصَرة أكثر بالصمت العربي.
البحر مسرح التحدّي
لم يكن الطريق مفروشاً بالورود. طائرات مُسيّرة هاجمت الأسطول قرب جزيرة كريت، ألقت قنابل صوتية وموادّ مهيّجة. السفن واجهت أعطالاً في المحرّكات. الرياح في بعض الأيام أرغمتها على تأجيل المسير. إسرائيل حشدت بحريتها وهدّدت علناً بإيقاف الأسطول بالقوة.
لكن كل موجة كانت بمثابة امتحان. كل ميل يُقطع كان إعلاناً أن الإنسانية أقوى من الحديد. وهنا كان يكمن معنى الصمود: أن تُبحر وأنت تعلم أن الخطر مُحدِق بك، وأنك قد تُعتقل أو تُصاب، ومع ذلك تمضي.
النقابات العمالية: أيدي الصمت التي صارت أيدي الفعل
في لحظة قد يظن البعض أن النقابات لا دور لها سوى تحسين الأجور وتقليل ساعات العمل. لكنّ التاريخ يُعلّمنا أن النقابات كثيراً ما كانت في صميم التحولات الكبرى: من جنوب أفريقيا في مواجهة الفصل العنصري، إلى بولندا في حركة «تضامن»، إلى أميركا اللاتينية في إسقاط الديكتاتوريات.
وفي مشهد أسطول الصمود، تقدّمت النقابات العمالية كجسور خفية تبني الطريق نحو البحر:
-في الموانئ، سهّلت النقابات حركة الشحن والتفريغ.
-في المصانع، جمعت التبرعات وقدّمت المعدات.
-في الشوارع، حرّكت الرأي العام بالمسيرات والبيانات.
-في المحاكم، هيّأت الغطاء القانوني لمواجهة أي اعتقال أو مصادرة.
لقد أثبتت النقابات أن العامل الذي يُدير رافعة في الميناء قد يكون أكثر تأثيراً في نصرة غزة من وزير عربي يجلس خلف مكتبه ويوقّع بيانات متناقضة.
التخاذل العربي: صمتٌ يساوي مشاركة
لا يمكن الحديث عن أسطول الصمود من دون الإشارة إلى الوجه الآخر من الصورة: التخاذل العربي. كيف يمكن تفسير أن سفناً قادمة من أقصى الغرب والشرق تبحث عن ممرّ إلى غزة، بينما الموانئ العربية الأقرب تُغلق أبوابها أو تكتفي بالمشاهدة؟ كيف يَسمح حكام عرب لأن تُصبح قوافل التضامن رهائن للرياح والبحر، في حين أن جغرافيا بلدانهم أقرب وأسهل؟
إنه عار أن يتصدّر الأوروبيون مشهد التضامن الميداني، بينما يكتفي كثير من الحكومات العربية بخطابات «الاستنكار»، بل ويذهب بعضها أبعد في التنسيق الأمني لمنع مثل هذه التحركات من المرور عبر أراضيها.
هذا التخاذل لا يفضح فقط هشاشة المواقف الرسمية، بل يُظهر الهوّة بين الشعوب العربية وأنظمتها. الشعوب تهتف في الشوارع وتجمع التبرعات وتُنظّم قوافل برية، بينما الأنظمة تحسب الموقف بالدقيقة والدولار والعلاقة مع البيت الأبيض.
صمود الشعوب والنقابات: الوجه الآخر للعروبة
رغم التخاذل الرسمي، إلا أن الشعوب العربية لم تقف مكتوفة الأيدي. هنا يبرز دور النقابات العمالية في العالم العربي:
-في تونس، عمال الموانئ رفضوا المشاركة في أي إجراءات قد تعرقل السفن المتجهة إلى غزة.
-في المغرب، أصدرت نقابات بيانات تضامن، مطالبة بفتح الموانئ.
-في لبنان، حرّكت النقابات العمالية مسيرات ووقفات تضامنية.
هذه المبادرات وإن بدت صغيرة، إلا أنها تعبّر عن أن العروبة الحقيقية تسكن في قلوب العمال والفقراء والطلاب، لا في مقرات القمم الباردة.
البحر مرآة السياسة
أسطول الصمود لم يعد مجرد قافلة إنسانية، بل صار مرآة تكشف تناقضات العالم: الغرب منقسم، جزء يتواطأ بالصمت أو بالدعم العسكري لإسرائيل، وجزء آخر يبحر بالحرية والعدالة. العرب منقسمون: شعوب تنبض غضباً وتضامناً، وحكومات تفضّل الصمت أو الانشغال بالمصالح. العالم كله يراقب: هل يُسمح لسفن صغيرة أن تهزم الحصار الكبير؟
في هذه المرآة، يظهر وجه النقابات كأحد أبرز الفاعلين، ويظهر أيضاً وجه التخاذل العربي كجرح نازف.
البعد الإنساني لأسطول الصمود
في قلب المشهد، بعيداً عن الأرقام والسياسة والبيانات الرسمية، تقف المأساة الإنسانية في غزة كأكبر شاهد على فظاعة الحصار وأهمية أسطول الصمود. فالمسألة ليست مجرد سفن تبحر فوق المياه، بل هي حياة تُسلب يوماً بعد يوم، وأرواح تُطفأ ببطء في صمت قاتل.
في المستشفيات، تتجلّى المأساة بأوضح صورها. أطباء يجرون عمليات جراحية على ضوء هواتفهم المحمولة بعدما تعطّلت أجهزة الإضاءة بسبب نفاد الوقود.
غرف العناية الفائقة تتحوّل إلى مقابر صامتة حين يتوقف جهاز تنفس اصطناعي عن العمل، لأن شحنة الكهرباء انقطعت في لحظة حرجة. والمرضى، كباراً وصغاراً، يراقبون بأعين منهكة عقارب الساعة، كأنها عدوّ يتربص بهم أكثر من المرض ذاته. إنّ دواءً واحداً قد ينقذ حياة طفل، لكنه ممنوع من العبور عبر المعابر المغلقة. وهنا يطلّ أسطول الصمود، كنافذة أمل، ليقول إن البحر يمكن أن يكون ممرّ حياة لا مقبرة جماعية.
وإذا كان المرض يفتك بالأجساد، فإنّ الجوع يفتك بالأرواح. صور الأطفال الهزلى في غزة ليست مجرد مشاهد عابرة على شاشات التلفاز، بل هي مرآة لضمير الإنسانية كلّه. هؤلاء الأطفال الذين ينامون على بطون فارغة، ويستيقظون على رائحة الخبز الذي لم يصل إلى بيوتهم، ينتظرون الأسطول وكأنهم ينتظرون الفجر. كل شحنة طحين، كل كيس أرز، كل علبة حليب، تتحوّل في المخيمات إلى ما يشبه العيد. ومن هنا تكتسب النقابات العمالية في العالم بعدها الأخلاقي، حين تدرك أن شحنة غذاء صغيرة قد تساوي في عيون هؤلاء ما لا تساويه ثروات النفط المكدّسة في خزائن الصامتين.
لكنّ المأساة ليست محصورة داخل حدود غزة. فهي تمتد إلى ضمائر المتضامنين الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية مواجهة البحر والحصار. أحد المتطوّعين الأجانب، كما نقلت عنه وسائل الإعلام، قال: «جئت لأنني لا أحتمل أن أرى طفلاً يموت جوعاً بينما أنا أعيش في رخاء». هذا الصوت الفردي يختصر فلسفة أسطول الصمود: هو تحالف الضمائر الحرة ضد تحالف الصمت والتخاذل. وفي المقابل، يظلّ السؤال الموجع حاضراً: لماذا يأتي الدعم من عمال موانئ أوروبا وأميركا اللاتينية، بينما تصدّ موانئ عربية سفن التضامن وكأنها تحمل وباءً معدياً؟
في مشهد آخر، يقف الأطفال أنفسهم كأبرز رموز هذا الصراع. على شاطئ غزة، طفل يلوّح بكفّه الصغيرة لسفينة تمرّ بعيداً، كأنه يحاول أن يرسل إليها رسالة غير مكتوبة: «لا تنسونا». وفي مدينة أوروبية بعيدة، طفل آخر يكتب رسالة تضامن ويضعها في حقيبة أحد المتطوّعين على متن الأسطول. البحر هنا لم يعد حاجزاً بين الأطفال، بل جسراً من الأمل يمتد من ضفة إلى أخرى. هذا البعد الإنساني يتجاوز السياسة والجغرافيا، ليعيد تعريف معنى الأخوّة البشرية.
ولا يكتمل الحديث عن البعد الإنساني من دون التوقف عند المفارقة المؤلمة بين الشعوب والأنظمة. ففي الشوارع العربية، عمال بسطاء، موظفون متقاعدون، وطلاب جامعيون يخرجون في مسيرات تضامن، يرفعون شعارات تدعو لفكّ الحصار وفتح البحر. بينما الأنظمة الرسمية تلوذ بالصمت، أو تبرّر تقاعسها بذريعة «الظروف الدولية». هذه المفارقة تحوّل التخاذل العربي إلى جرح أعمق من حصار العدو، إذ يشعر الغزّي أن شقيقه قد تخلّى عنه قبل عدوه. وهنا تظهر النقابات العمالية العربية – حين تتحرك – كصوت استثنائي يخرق جدار الخذلان الرسمي، ويعيد وصل ما انقطع بين الشارع الفلسطيني والمحيط العربي.
ومن المُدهِش أن ترى كيف يتحوّل أسطول الصمود إلى مدرسة إنسانية. فهو ليس مجرد مبادرة لتسيير سفن مساعدات، بل فضاء يعلّم العالم معنى التضامن العملي. فكل عامل نقابي يحمّل صندوق دواء على متن السفينة، وكل طبيب يكتب قائمة بالأدوية المطلوبة، وكل متطوّع يخاطر بحياته ليكون على ظهر الأسطول، إنما يعيد كتابة تعريف الإنسانية. وكأنّ هذه السفن لا تحمل إمدادات فقط، بل تحمل رسالة كونية تقول: «العدل لا يُقاس بميزان القوة، بل بميزان الضمير».
إنّ ما يميّز هذا الأسطول، في بعده الإنساني، أنه لا يتحدّى الحصار الإسرائيلي وحده، بل يتحدّى أيضاً حالة اللامبالاة التي اجتاحت العالم. في زمن صارت فيه القضايا تُختصر في أرقام وإحصاءات، جاء الأسطول ليعيد للقضية الفلسطينية وجهها الإنساني الحي. أرقام الشهداء تتحوّل إلى وجوه، صور الجوع تتحوّل إلى أسماء، والبحر ذاته يتحوّل من مساحة موت إلى مساحة أمل. وهذا ما يجعل أسطول الصمود مختلفاً: فهو لا يقدّم مساعدات فقط، بل يقدّم للعالم درساً في الأخلاق.
وبينما يستمر الحصار، يظلّ هذا البعد الإنساني هو الوقود الحقيقي للأسطول. فالسياسة قد تساوم، والأنظمة قد تهادن، لكنّ دمعة طفل مريض في غزة، وصرخة أم ثكلى، وصمت أب عاجز عن إطعام أولاده، هي التي تحرّك الموانئ والنقابات والمتطوعين من كل فجّ عميق. وهكذا يصبح البحر ساحة معركة من نوع آخر: معركة بين الإنسانية واللاإنسانية، بين الضمير العالمي والتخاذل العربي، بين أملٍ يُبحر في سفينة، ويأسٍ يتجذّر في جدار الحصار.
حين يكتب البحر شهادة الشعوب
ربما يصل الأسطول إلى غزة، وربما يُمنع بالقوة. لكنّ الأكيد أن البحر كتب شهادة جديدة: أن التضامن ممكن رغم المسافات، وأن الشعوب قادرة على صنع معجزات حين تلتقي على هدف، وأن النقابات العمالية ليست مجرد أدوات تحسين معيشة، بل قادرة أن تكون جسوراً نحو الحرية.
أمّا التخاذل العربي، فقد دوّنه البحر أيضاً، لا بالحبر بل بالصمت. صمت الأنظمة سيبقى وصمة في جبينها، في حين أن الشعوب ونقاباتها كتبت اسمها في سجلّ الكرامة.
الأسطول ليس مجرد قارب وسفن؛ إنه قصيدة حيّة تُتلى على شاطئ غزة: قصيدة عن صمود الشعوب، وخيانة الأنظمة، وإصرار النقابات على أن للعامل والفلاح مكاناً في معركة الحرية.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار