آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » الفاشيون الجدد يرتدون نظارات الواقع الافتراضي

الفاشيون الجدد يرتدون نظارات الواقع الافتراضي

 

علي عواد

 

 

في هذه المقالة، نسرد حكاية من دهاليز عالم التقانة.

تروي كيف تحوّل الحلم التكنولوجي إلى شبكة نفوذٍ مافيوية فاشية، تحكم الاقتصاد والسياسة، وتخوض حربها الخاصة على الإنسان. ولأن لكل حكاية اسماً، تُدعى هذه: «عصابة عالم التكنولوجيا».

 

قبل خمسةٍ وعشرين عاماً، صعد رجلان إلى سيارة «ماكلارين إف 1»، أسرع سيارة طرقات آنذاك. سأل الرجل الجالس إلى المقعد الجانبي السائقَ: «ماذا يمكن لهذه السيارة أن تفعل؟»، أجابه السائق بابتسامة: «راقب فقط». دوّى المحرك، انطلقت المكلارين مثل صاروخ، ثم اصطدمت بسدٍّ، وطارت في الهواء لتتحول إلى حطام بقيمة مليون دولار.

 

لكن المدهش أنّ الراكبين خرجا سالمين: إيلون ماسك في مقعد السائق، وإلى جانبه بيتر ثيل.

من بين أنقاض المكلارين خرج الرجلان، وقد كانا قد بدآ معاً مغامرتهما في «باي بال»، المشروع الذي سيتحوّل لاحقاً إلى ما يُعرف بـ «مافيا باي بال».

 

قدّمت «باي بال» أول محاولة لتحويل النقود إلى كود، أول خطوة في رحلة استبدال الثقة البشرية بالخوارزمية.

 

المافيا الرقمية

ما بدأ تجربة في تحويل المال إلكترونياً عبر «باي بال»، انتهى بتكوين طبقةٍ مالية/ تقنية تمسك بالعالم من أطرافه الأربعة: الإعلام، الفضاء، البيانات، والسياسة.

 

من رحم تلك الشركة الصغيرة، خرجت مجموعة من الشبّان الذين جمعهم طموح واحد: السيطرة على المستقبل. عندما باعوا «باي بال» لشركة «إيباي» عام 2002، انتشروا في جسد التكنولوجيا العالمية، كلٌّ أسّس إمبراطوريته الخاصة، لكنهم ظلّوا يتغذّون من الجذر نفسه.

أسّس إيلون ماسك «سبايس إكس» واحتكر مشاريع الفضاء، ثم أنشأ «تسلا»، فامتلك مستقبل الطاقة والنقل، وأخيراً اشترى «تويتر» وحوّله إلى آلة أيديولوجية يمينية تحت شعار «حرية التعبير».

 

بيتر ثيل أسّس «بالانتير»، شركة تحليل البيانات والمراقبة التي تعمل لمصلحة الاستخبارات الأميركية، وصار ممولاً رئيسياً للتيار اليميني المتطرّف.

 

ريد هوفمان أنشأ «لينكدإن»، شبكة المراقبة المهنية الكبرى، قبل بيعها إلى «مايكروسوفت».

 

ماكس ليفتشين أطلق «أفرِم» للتمويل الاستهلاكي، وشارك في تأسيس «يِلب». ديفيد ساكس أنشأ «يامر»، واستثمر لاحقاً في شركات إعلامية وسياسية، وشارك في بودكاست All In.

 

تشاد هرلي وستيف تشين وجاويد كريم أسّسوا «يوتيوب»، وجيريمي ستوبيلمان أسّس «يِلب».

كلٌّ منهم أسّس شركةً أصبحت ركناً من أركان الحياة الحديثة. شكّلت شبكة مترابطة مثل نسيجٍ عصبيّ واحد، وجمعتها العقيدة نفسها: الإيمان بالتكنولوجيا على أنها قوة خلاص.

 

من الحلم إلى السيطرة

مع مرور الوقت، خرجت المافيا من المال إلى السلطة، ومن السوق إلى الدولة.

أعادتهم تلك القناعة إلى الطاولة بعد عقدين من التنافس، تحت راية غير معلنة اسمها «إنقاذ العالم من فوضاه». لكن خلف الأقنعة، الهدف واحد: إنشاء نظام رقمي يسبق القانون، وسوق بلا حدود، وإنسان يمكن ضبطه مثل كود.

 

من خلف الكواليس، تشكّلت جبهة موحّدة من أثرياء التكنولوجيا. يموّلون السياسيين اليمينيين، يشترون المنصّات، ويعيدون كتابة الأخلاق الرقمية.

يتحدثون عن «الخطر الوجودي» ويقصدون الإنسان. يخشون هشاشته، وعاطفته، وعشوائيته، ويريدون استبداله بنظام لا يخطئ.

هكذا وُلد التحالف بين المافيا القديمة والدولة الأمنية الجديدة. شركاتهم تموّل حملات انتخابية تدفع العالم نحو قومية تكنولوجية تخلط رأس المال بالدين وبالذكاء الاصطناعي.

 

الفاشية الجديدة

ارتدت الفاشية قديماً الزي العسكري المموّل من الطبقة الثرية. اليوم ترتدي سماعة الواقع الافتراضي وتحكم بخوارزمية.

لا تحتاج إلى دبابة لتقمع، يكفي أن تتحكّم بما تراه العين وما تظهره الشاشة. لا تأمر، تقترح. لا تعتقل، أنت «تحسّن تجربة المستخدم».

 

تبحث الثروة دوماً عن مبرّر أخلاقي، لذلك صنعوا لاهوتاً جديداً. يتحدثون عن «الذكاء الاصطناعي الفائق» ASI كما يتحدث المؤمن عن إله يعبده كمن يراه، ويروّجون لـ«المخلّص الرقمي» الذي سيُعيد ترتيب العالم حين ينهار البشر تحت ثقل أخطائهم. في هذا اللاهوت، الخطأ محرَّم لأن الخوارزمية لا تخطئ، والحرية… هذه ضجيج. هكذا تحوّلت «عصابة عالم التكنولوجيا» إلى منظومة خلاصٍ زائف. يمرّ كل شيء عبرها: المعلومة، القرار، الرغبة، والخوف.

 

يعيش العالم داخل منظومتها، يردّد شعاراتها، ويظن أنه حرّ.

 

الكاهن الأعظم للعصر الرقمي

خلف هذا الصعود يقف رجل واحد: بيتر ثيل.

وُلد ثيل عام 1967 في فرانكفورت لعائلةٍ ألمانية كاثوليكية هاجرت إلى كاليفورنيا. درس الفلسفة والقانون في جامعة «ستانفورد»، وهناك تأثّر بالمفكر رينيه جيرار وبأفكاره عن التقليد والصراع.

 

جمع بين اللاهوت والفكر المحافظ، واعتبر أنّ التكنولوجيا هي الأداة الأخيرة لتحقيق إرادة الخلاص. منذ بداياته، مزج بين البرمجة والميتافيزيقيا، بين رأس المال والرؤيا الدينية، ليصير لاحقاً أحد أكثر العقول تأثيراً في وادي السيليكون، ورأس الحربة الفكرية لليمين التقني الجديد.

 

لا يشبه غيره من مليارديرات وادي السيليكون. هو فيلسوف قبل أن يكون مستثمراً، ومؤمن بأنّ الديموقراطية تعيق «العبقرية». كتب عام 2009: «لم أعد أؤمن أن الحرية والديموقراطية متوافقتان».

 

بهذا التصريح، وضع نفسه داخل فلسفة «التنوير المظلم» التي ترفض حكم الشعب وتدعو إلى سلطة نخبويّة يقودها العقل التقني.

أسّس ثيل «بالانتير»، واجهتها مكافحة الإرهاب، وجوهرها المراقبة الشاملة. تقرأ الشركة العقول أكثر مما تقرأ البيانات. في مقابلاته، يتحدث عن نهاية العالم، وعن «المسيح الدجّال»، مستخدماً اللغة الدينية لتأطير رؤيته السياسية.

 

يحذّر من بيروقراطية الحكومات وتنظيم الذكاء الاصطناعي، ويراها المدخل لولادة نظامٍ استبدادي عالمي. في محاضراته (الموثّقة في The Times وThe Verge) يصف هذا النظام بـ«الدجّال»، ويرى أنّ الخوف من التكنولوجيا يُستخدم لتبرير مزيد من السيطرة.

 

لا يقول ثيل إنه المخلّص من «الدجّال»، لكنه يضع نفسه في موقع من يحذّر منه ويقود المواجهة ضده، موقع النبي التقني. يستند إلى أفكار رينيه جيرار عن التقليد والصراع، ويعتبر أنّ البشر في العصر الرقمي يتحولون إلى «نماذج» تُراقَب وتُكرَّر. عبر خطابه، يبني لاهوت السلطة التقنية، عندما يختفي الإنسان وتبقى الخوارزمية/ القدر.

 

باختصار، يُنذر ثيل بالعتمة ليصنع من نفسه المصباح. يخلق صورة «الدجّال الرقمي» ليبرّر سلطته، ويحوّل الخلاص إلى مشروعٍ تكنولوجي تحرسه المافيا التي أنجبها.

 

إلى السلطة

لم يبقَ فكر ثيل داخل مختبراته أو شركاته. منذ 2017، درّب نائب الرئيس الأميركي الحالي، جاي دي فانس، داخل شركة «ميثرِل» التي يموّلها، ونسج له شبكة علاقات مالية وسياسية أوصلته إلى قلب اليمين الأميركي.

 

في عام 2024، رُشِّح جاي دي فانس نائباً لترامب بدعمٍ مباشر من بيتر ثيل، ضمن مشروعٍ سياسي ــ تقني يسعى إلى توحيد رأس المال اليميني بالتكنولوجيا.

 

يتحرّك فانس ضمن منظومةٍ يشرف عليها ثيل، منظومة تنتظر لحظة التنفيذ التي خطّها الكاهن الأعظم للعصر الرقمي.

 

الحادث الذي لم يكتمل

كل ما يحدث اليوم بدأ هناك، في لحظةٍ بدت عابرة قبل أن تصير نبوءة.

في تلك المرحلة، كانت التوترات داخل «باي بال» تشتدّ. شعر ماسك أنّ قبضته على الشركة تتراخى، وأن ثيل يكتسب ولاء الفريق ودهاء السوق.

 

احتاج إلى حركة تُعيد تعريفه أمامهم، تقول إنه لا يخاف. اشترى «المكلارين إف 1»، واصطحب ثيل في جولةٍ أرادها برهاناً على جنونه. إلا أنّ ماسك، لسذاجته، لم يعرف أن الرجل الجالس إلى جانبه سيقود العالم من دون أن يحرّك المقود.

 

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١-الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الذكاء الاصطناعي والسرقات الأدبية… ملف ساخن في “الأسبوع الأدبي”

فتحت جريدة الأسبوع الأدبي في عددها الجديد ملف الذكاء الاصطناعي والسرقات الأدبية وطرحت سؤالاً جوهرياً مفاده: “كيف ترى ظاهرة الاعتماد على تقنية الذكاء الاصطناعي في ...