أنس جوده
في زمنٍ منهك ومفتّت مثل الذي تعيشه سوريا اليوم، لا تبدو هناك فرصة أهمّ من تفاهمٍ جدّي بين “قسد” والسلطة، يضع حدّاً لدوّامة الصراع، ويؤسّس لشكلٍ جديد من العمل السياسي الوطني. فنجاح هذا التفاهم لا يعني مجرد تسوية عسكرية أو ترتيبات أمنية، بل تحوّل “قسد” من قوّة محلية إلى فاعل وطنيٍّ سياسيٍّ قادر على تمثيل شرائح اجتماعية واسعة، والتفاعل مع بقيّة القوى في مشروعٍ جامع يعيد إنتاج الدولة على أسس المشاركة.
هذا المسار، إن أُنجز بوعي، يمكن أن يحوّل الصراع السوري من منافسةٍ على الجغرافيا والايديولجيا إلى تنافسٍ سياسيٍّ وفكريٍّ على إدارة البلاد. فحين تنخرط القوى المحلية في مؤسسات الدولة وتشارك في صياغة القرار والخدمات والأمن، يبدأ المجتمع السوري باستعادة تدريجية لفاعليته، وتتحوّل مناطق النفوذ إلى مختبراتٍ مدنيةٍ للحكم المحلي والمساءلة.
لكن الخطر الكبير يكمن في أن يتحوّل التفاهم المرتقب إلى محاصصةٍ جغرافيةٍ جديدة؛ فيبقى المركز حكراً على السلطة، وتكتفي الأطراف بوجودٍ رمزيٍّ أو إداريٍّ محدود. ذلك سيناريو يعيد إنتاج الانقسام بأشكالٍ “شرعية”، ويقود إلى تفكّكٍ مرحلي قد يطول إصلاحه. التحدّي الحقيقي ليس في رسم حدود النفوذ، بل في كسرها لصالح مشروعٍ وطنيٍّ واحد.
أمّا المصيدة الكبرى فهي الانجرار إلى صراعٍ عسكريٍّ تُبقيه الجارة الشمالية خياراً مفتوحاً وتلوّح به كلّما احتاجت إلى إعادة ضبط المشهد الحدودي أو فرض إيقاعها على دمشق. فأنقرة اليوم لا تسعى إلى حربٍ شاملة، لكنها تدير حافتها بذكاء، مستخدمةً التهديد العسكري كأداة ضغطٍ سياسيةٍ وأمنيةٍ لتقييد “قسد” وإبقاء السلطة في حاجةٍ دائمةٍ إلى التنسيق معها وإلى غطائها الإقليمي. وأيّ مواجهةٍ جديدة في هذا السياق لن تعني إلا مزيداً من ضعف الدولة، ومزيداً من الارتهان لمعادلات الخارج، ومزيداً من تضييع اللحظة النادرة التي يمكن أن تُبنى عليها الثقة الوطنية من جديد.
اليوم، بعد أعوامٍ من الدم والخراب، الحكمة تكمن في خفض السقوف لا في رفعها. فالمطالبة بالحدّ الأقصى منذ البداية تعني خسارة الحدّ الأدنى لاحقاً. وحده من يرسّخ الآن قواعد الأمن والخدمات والتمثيل الحقيقي، سيستطيع تحويل قوّته العسكرية إلى وزنٍ سياسيٍّ مستدام. إنها لحظة اختبارٍ نادرة في زمنٍ من الانهيار، وإذا لم تُلتقط اليوم، فربّما لا تعود أبداً.
سوريا لك السلام
(اخبار سوريا الوطن 1-صفحة الكاتب)