غسان القيم
كانت الليلة الأخيرة من العرس الريفي أصدق لحظة في تلك الأيام المليئة بالأهازيج والزغاريد.
فبعد الضحك والفرح والولائم يأتي المساء الذي يختبر قلوب الأمهات والجدّات حين تدرك الأم أن ابنتها التي ربّتها بدموعها ستغادر بيتها إلى بيتٍ جديد إلى حياةٍ أخرى لا تعرفها بعد.
في تلك الليلة لا ينام أحد..تظلّ أضواء الساحة مشتعلة ويجلس الجميع يتبادلون القصص والضحكات لكن خلف تلك الضحكات تختبئ دموع كثيرة.
تجلس الأم قرب ابنتها العروس تمشط شعرها للمرة الأخيرة وتضع لها وشاحها الأبيض وتهمس:
“الله يهنيك يا بنتي ويجعلك من السعداء”
بين حين وآخر تُسمع الزغاريد من النساء، لكنّها زغاريد ممزوجة بالشجن وكأن الفرح نفسه يغالب دمعة الوداع.
في الصباح الباكرة يبدأ تجهيز “صندوق العروس” ذاك الصندوق الخشبي الموشّى بالنقوش الذي يحوي أثمن ما تملك: ثيابها المطرّزة حليّها وعطرها القديم، وبعض الذكريات التي لا تُشترى.
يحمله الرجال على أكتافهم وسط الزغاريد، وتغني النسوة بصوتٍ دافئ حنون:
“ها ها جبنالكن الصندوق برزاتو
ها ها تلت باشات تقامو بساساتو
ها ها الله يديمك يا بيّ العروس
وها ها وحط الخبز من كتير عاداتو.”
كانوا يغنون ليُخفوا وجع الفراق لأن الغناء في الريف كان دواءً للقلوب.
تخرج العروس من بيتها مزينة بالورد والغار وجهها مغطّى بالطرحة البيضاء ويديها تفوحان بعطر الحنّاء.
تسير ببطءٍ وسط الموكب وأمها تراقبها من عتبة الدار تمسح دموعها بطرف منديلها المطرّز.
تتقدّم النسوة وهنّ يرددن:
“يا عروس لا تبكي الله معك
يا فرحة البيت الله يهنيك.”
أما الرجال فيستقبلون الموكب بالأهازيج والطلقات في الهواء فيتردد الصدى بين الجبال كأنها الأرض نفسها تودّع بنتها.
حين تصل العروس إلى بيتها الجديد تدخل بخطوةٍ خجولة تُنثر عليها حبوب القمح والملح وتُكسر الرمانة على الباب تفاؤلًا بالخصب والبركة.
وفي تلك اللحظة تجفّ دمعة الأم شيئًا فشيئًا إذ تعلم أن ابنتها انتقلت من بيت الحنان إلى بيت الأمان.
الفرح يملأ الدار لكن شيئًا صغيرًا من الحنين يبقى معلقًا في الزوايا مثل رائحة الورد اليابس في صندوق العروس.
وفي الليل حين تخلو البيوت من الضجيج تجلس الأم قرب الموقد تتأمل النار وتهمس لنفسها:
“الله يوفقها يا رب ويطعمها أيام خير.”
ثم تغفو على دفء الذكرى وتستيقظ على صمتٍ جديد لا يشبه صمت الأيام الماضية.
هكذا كان وداع العروس في الريف الساحلي السوري…
مزيجًا من الفرح والحنين من الزغاريد والدموع من القلوب التي تُفتح للحياة الجديدة وتُغلق على الحنين القديم.
كانت تلك الليلة تختصر كل ما في الريف من صدقٍ وإنسانيةٍ وبساطة.
رحلت العروس لكن بقيت الأغاني وبقيت دعوات الأمهات المبلّلة بالمحبة تسافر عبر الأجيال كنسيمٍ طيّبٍ لا يزول..
(أخبار سوريا الوطن 1-عاشق اوغاريت.. غسان القيم..)
syriahomenews أخبار سورية الوطن
