المنذر الدمني
تحتلّ كرة القدم مكانةً خاصة في المجتمع المصري، فهي ليست مجرد لعبة أو منافسة رياضية، بل مرآة تعكس التحولات الاجتماعية والثقافية التي يعيشها المصريون.
في الدوري الممتاز، تتجلى الحالة التشجيعية والانتماءات الرياضية بكل ما تحمله من حماسة وتوترات وانقسامات، بينما تظل اللعبة الشعبية في الأحياء والقرى تمثل الوجه الأصيل لكرة القدم بوصفها مساحة للمتعة والهوية الجماعية.
بين هذين المستويين، الاحتراف والشعبية، يمتدّ خط جدلي يعبّر عن الصراع بين الحلم والواقع، وبين ما هو داخل أو خارج المؤسسة. هذا الخط تحديداً هو ما يتناوله مسلسل «ابن النادي» (تأليف مهاب طارق- إخراج كريم سعد ـــ بطولة سيد رجب وأحمد فهمي وآية سماحة) الذي بدأ عرضه أخيراً على منصة «شاهد»، إذ يطرح سؤالاً جوهرياً: ما الذي يصنع النجاح في هذا المجال؟
ما بين الاحتراف والشعبية
تبدأ قصة المسلسل مع أمين الشعلة (سيد رجب)، مدير نادي «الشعلة» العصامي والمبدئي، الذي قاد ناديه من الدرجة الرابعة حتى التتويج بلقب الدوري الممتاز متفوقاً على «الأهلي» و«الزمالك». يحاول أمين أن ينقل شغفه بالنادي إلى ابنه عمر (أحمد فهمي) منذ ولادته، لكن سرعان ما يتضح أنّ عمر لا يشارك والده هذا الحلم ولا يبدي أي اهتمام بكرة القدم. هنا تتجلى أولى ثيمات المسلسل: علاقة كرة القدم في المجتمع المصري، ومحاولة الآباء توريث أحلامهم إلى الأبناء من دون الإصغاء إلى رغباتهم الخاصة.
من المسلسل
من المسلسل
تنطلق الأحداث فعلياً بعد وفاة أمين الشعلة، واضطرار عمر إلى تولّي إدارة النادي وسط أزمة مالية خانقة، سعياً إلى الحفاظ على مستواه كي يتمكن من تحرير ثروة والده المحتجزة والمُرهونة. غير أنّ طريقه نحو ذلك محفوف بالعقبات: فالفريق يستقيل جماعياً لعدم ثقتهم به، ويجد نفسه مضطراً إلى إعادة بناء النادي من الصفر من دون ميزانية.
عندها، يلجأ مع صديقه صيام (أحمد عبد الحميد) إلى المدرب المنسي الكابتن أسامة الأعرج (حاتم صلاح)، الذي يفتقر إلى الخبرة الاحترافية، وإلى مجموعة من اللاعبين المنسيين والمقصيين من المشهد الكروي بسبب قضايا تراوح بين المخدرات والسرقة وتقدّم العمر.
من هنا، تتكشف الثيمة الثانية في المسلسل: سؤال الاحتراف في مواجهة الشعبية، أي التوتر بين المؤسسة الرياضية الرسمية وما تمثله من نظام مغلق، وبين الفضاء الشعبي الذي يُقصى منه الموهوبون لأسباب اجتماعية أو اقتصادية. وهكذا يجد عمر نفسه أمام معضلة وجودية: النجاح في حياة لا يريدها، لكنها تمثل الحلم الوحيد لوالده، والطريق الأوحد نحو نجاته واستعادة إرثه.
كوميديا التناقضات بين النمطية والخفة
تتولّد الدراما والكوميديا في المسلسل من خطّ التناقضات، حين تتقاطع شخصيات تنتمي إلى منظومات أخلاقية ومبادئ مختلفة تماماً عن البيئة التي تدور فيها الأحداث. تنبع الكوميديا من هذا التصادم القيمي والاجتماعي، الذي صيغ بمهارة على مستوى الأداء والإيقاع، وإن ظلّ ضمن قالب درامي تقليدي يُعيد إنتاج أنماط مألوفة في الدراما المصرية.
يتمحور الصراع عند الشخصية الرئيسية، عمر، في أكثر من مستوى: أولاً، الصراع الشخصي بين أسلوب حياته الحرّ واللامبالي، والحياة الجديدة التي وجد نفسه مضطراً لخوضها كمدير للنادي. ثانياً، الصراع المهني داخل النادي ذاته، حيث تتجسّد القوى المعارضة لأهدافه في شخصية كمال، الذي يسعى إلى إفشال عمر وتخريب النادي بدوافع شخصية.
قراءة ساخرة وجادة في آنٍ لعلاقة المصريين بكرة القدم
أما المستوى الثالث من الصراع، فهو صراع النادي نفسه، إذ يعكس حالته المضطربة والصعوبات المستمرة التي تنشأ من خيارات عمر وقراراته، ومن التناقض بين صورة النادي العريق التي بناها الأب، وواقعه الجديد الذي يتداعى تحت ضغط الواقع الاقتصادي والاجتماعي. هذا الاضطراب يصبح، في عمقه، مرآةً تشبه شخصية عمر نفسها: ممزقة بين الحلم والإرث، وبين ما يريده هو وما يُفرض عليه.
هذا القالب الدرامي، القائم على توليد الصراعات بوصفها محرّكاً للأحداث والعقبات والتناقضات، ينتج بدوره الكوميديا من داخل الموقف ذاته، إذ تتقاطع المفارقات لتصنع لحظات مضحكة تحمل بُعداً إنسانياً. وقد نجح المسلسل في توظيف هذا الأسلوب داخل إطار كوميدي متماسك، مستفيداً من أداء تمثيلي عبّر بذكاء عن كوميديا التناقضات والمواقف من دون تكلف أو مبالغة.
مع ذلك، فإن هذا النمط بات مكرّراً في الدراما الكوميدية المصرية المعاصرة، إذ يُعاد استخدامه بالقوالب نفسها، ما يجعله نمطياً ومتوقّعاً رغم فاعليته وجاذبيته الأولى.
يقترب المسلسل من نهايته ضمن مسارٍ يمكن توقّعه إلى حدّ كبير، سواء في مجرى الأحداث أو في طبيعة العقبات والحلول التي تطرأ عليها، غير أنه ما يزال ناجحاً في الحفاظ على إيقاعه الكوميدي الجاذب الذي يُبقي المشاهد متابعاً حتى النهاية. مع ذلك، يظلّ المسلسل محتفظاً بقدرٍ من العمق في طرحه لسؤال الاحتراف في المشهد الكروي المصري، وعلاقته بالفضاء الشعبي الذي تستمدّ منه اللعبة روحها الأصيلة.
عبر هذا التداخل بين المستويين، تتجاوز الدراما صراع عمر المباشر حول إدارة النادي لتطرح صراعاً أوسع: صراع حول معنى النجاح ذاته، وأحقية الفرصة، وحدود الحلم بين ما هو موروث وما هو مكتسَب.
وهكذا يصبح المسلسل قراءة ساخرة وجادة في آنٍ واحد لعلاقة المصريين بكرة القدم، وللجدلية بين الاحتراف والشعبية، الأب والابن، الحلم والواقع، على أمل ألا تبقى هذه الثنائيات مجرد أدوات لتوليد الكوميديا في الحلقات القادمة، بل تتعدى هذه الوظيفة لتكون نوافذ للتأمل في التحوّلات الاجتماعية التي تخلقها اللعبة وتعبّر عنها.
* «ابن النادي» على منصّة «شاهد»
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
