غادة حداد
يساوي وثائقي «داخل غزة» الذي أنتجته «وكالة الأنباء الفرنسية»، بين الضحية والجلاد ويقدّم الرواية الإسرائيلية بغطاء «الحياد». مجدداً، يُعيد الغرب إنتاج القصة الفلسطينية بلغته الاستعمارية، فيحوّل الاحتلال إلى «نزاع»، والمقاومة إلى «إرهاب»، محاصِراً الصوت الفلسطيني بالرقابة والتمييع الأخلاقي
في قاعة سينما «الكوليزيه» في الحمرا، تجمّع عدد من الصحافيين الغربيين قبل أيام لمشاهدة فيلم «داخل غزة» للمخرجة الفرنسية هيلين لام ترونغ.
مساواة الضحية بالجلّاد
بعد انتهاء الفيلم، الذي امتد قرابة الساعة، وقف الحضور وصفق لدقائق عدة. فوراً، اعتلت المخرجة ومدير مكتب «وكالة الأنباء الفرنسية» في غزة، عادل الزعنون، المسرح على وقع تصفيق الجمهور. تأثر الحضور بما شاهده، فيما الأقلية العربية التي كانت موجودة، لم تخفِ غضبها مما رأته، فرسالة الفيلم واضحة: إسرائيل والمقاومة متساويان في الإجرام.
كما اعتاد الغرب، خصوصاً الفرنسي منه، يحاول تقديم واقعنا كما يود هو رؤيته. بالنسبة إلى صنّاع الفيلم، التاريخ يبدأ في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وما قبل ذلك كان سكّان غزة يعيشون حياة أكثر من طبيعية، من دون أي ذكر للحصار والحروب المتتالية على القطاع.
العرض الأول في دولة عربية
بدأ الفيلم بلقطات من عملية «طوفان الأقصى»، وتحديداً ما جرى في الجانب الإسرائيلي، ثم أشار إلى بعض ما كان يُعتبر طبيعياً في غزة وخسره الناس بسبب الحرب: كوب القهوة بدولار واحد ونزهة على الشاطئ. وثّق الفيلم تجربة صحافيي الوكالة مي ياغي وعادل الزعنون، والمصوّرين محمود الهمص ومحمد العبد منذ السابع من أكتوبر، إلى ما بعد إجلائهم وعائلاتهم من القطاع في الربيع من العام الماضي.
روى الأربعة اللحظات الأولى بعد الطوفان والقرارات السريعة لتغطية الحدث، وصولاً إلى محطة مفصلية حين طُلب منهم إخلاء مكاتب الوكالة بسبب تهديد إسرائيلي، وبات واضحاً أنّ الاحتلال لا يفرّق بين الصحافي والمقاتل، فكل الغزيين باتوا هدفاً لإسرائيل.
من وثائقي «داخل غزة» الذي عُرض قبل أيام في بيروت
من وثائقي «داخل غزة» الذي عُرض قبل أيام في بيروت
طلبت منهم الوكالة النزوح جنوباً نحو رفح، حيث تابعوا الحرب قدر استطاعتهم من هناك، وكان جلّ ما تمكنوا من نقله لا يتعدى الـ20 في المئة مما كان يحدث فعلاً في القطاع.
قبل العرض، قيل إن الفيلم يُعرض للمرة الأولى في بلد عربي، لكن المفارقة أن التصفيق جاء بعد ساعات من استهداف مسيرة إسرائيلية أحد جرحى «البيجر»، فاستُشهد مع زوجته. مرّ الفيلم فوق دماء الغزيين وخلفهم اللبنانيين، ليقول لهم إن المقاومة تسبّبت في استشهاد أكثر من سبعين ألفاً من سكان غزة وتهجير مليون ونصف مليون وتدمير القطاع.
في ختام الفيلم، عُرض مشهدان: أحدهما لمعارضين لنتنياهو في تل أبيب، والثاني لهتافات ضد «حماس» من داخل غزة. هذه الثنائية ليست سوى تبسيط فجّ للواقع، تحت ذريعة «الحياد»، ليصل الفيلم إلى خلاصته: المشكلة في إسرائيل ليست الاحتلال، بل حكومتها، ولولا «حماس» لما حصلت المجزرة.
حياد متواطؤ
طوال مدة تغطيتها الحرب، كانت «وكالة الأنباء الفرنسية» حريصة على البقاء على الحياد، حتى إنّها لم تستخدم صفة الإرهاب لوصف المقاومة. لكنّ هذا الحياد يمكن أن يحمل شيئاً من الخبث حين يعادل بين الضحية والجلاد.
في إحدى الشهادات، يقول أحد العاملين في الوكالة إنّه ضد القتل. ورغم إنسانية الموقف، لكن في السياق الفلسطيني، لا يمكن وضع الضحية والجلاد في قالب واحد تحت شعار الإنسانية.
يرى الوثائقي أنّه لولا حكومة «إسرائيل» و«حماس» لما حصلت المجزرة!
المواقف البديهية لا يجب أن تحمل هذا القدر من الفخر والاعتزاز، كمن يقول اليوم إنه ضد الإبادة، كأن يمكن قول العكس. فالعالم اليوم مقسوم: من هم علناً ضد الإبادة ومن يسكتون لأنه من غير الممكن المجاهرة بدعمها. ولكن الموقف الفعلي هو أبعد من ذلك، لو لم ترتكب إسرائيل هذه الإبادة ولم تتعمد قتل الصحافيين، هل كانت الوكالة ستهتم لدماء الغزيين إلى حد العمل على وثائقي؟
دائماً ما ادّعى الغرب أنه «يفسّر» العالم العربي لنفسه. غير أن التفسير ليس بريئاً، بل شكل من أشكال التملّك، طريقة لتحديد ما يمكن قوله وما لا يمكن. فالرواية الفلسطينية أُخضعت لتصفية لغوية ومؤسساتية أوروبية، جُرّدت من بُعدها السياسي وأُعيد تصديرها كحكاية إنسانية ناعمة صالحة للاستهلاك العام.
إعادة إنتاج قصتنا في الغرب
في فرنسا، اللغة هي القانون. حين أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2019 بأنّ معاداة الصهيونية يمكن أن تُعدّ شكلاً من أشكال معاداة السامية، لم يكن يقدّم رأياً أخلاقياً، بل كان يرسم حدود الخطاب.
وبعد بدء إسرائيل حربها على غزة عام 2023، حُظرت التظاهرات المؤيدة لفلسطين تحت ذريعة الأمن العام، وحُلّت جمعيات ونُبذ طلاب ونشطاء، قبل أن تتدخل المحاكم لتقليص هذا التعسف. لكن الرسالة وصلت: التضامن مع فلسطين خطر سياسي. حتى بعدما أقرّت «المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان» بأن الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل حرية تعبير، ظل الصوت الفلسطيني محاصراً، يُعامل في الإعلام الفرنسي كاستثناء يحتاج إلى تبرير وجوده قبل أن يُسمع.
يُخفي الخطاب الإنساني الغربي السياسة خلف الأخلاق، فيصبح اللاجئون «ضحايا»، وتتحول المقاومة إلى «إرهاب»، ويختزل التاريخ بأنه «صراع».
تضخّ فرنسا والاتحاد الأوروبي أموالاً ضخمة في غزة والضفة الغربية، لكنها مشروطة بفحص أمني ورقابة مالية وصياغة لغوية «محايدة».
المنظمات التي توثق الاحتلال تُستنزف في البيروقراطية، فيما تتحول القضية الفلسطينية إلى صور لممرّات إنسانية وطوابير طحين، لا إلى خريطة استعمار. نرى المساعدات ولا نرى النهب والاستيطان والقتل اليوميّ. يُمحى الفاعل السياسي ليُختزل في متلقٍّ للمساعدة.
يُعيد الإعلام الغربي إنتاج القوالب نفسها: «اشتباكات»، «دوّامة عنف»، «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها».
تلغي هذه المفردات التسلسل السببي وتحوّل الاستعمار إلى نزاع متكافئ. في فرنسا، يعمل الصحافيون في ظل حذر قانوني وأمني شديد، فتصبح الرقابة ذاتيةً: لا أحد يمنعهم مباشرة، لكن الجميع يتجنّب قول ما قد يغضب الدولة.
العقل الاستعماري الفرنسي لم يمت. ما يزال يتكلم من داخل المناهج، ومن مؤسسات الثقافة والإعلامية المموّلة من الدولة. لم تعترف فرنسا بتعذيبها في الجزائر إلا بعد عقود، وما تزال تتحكّم بأرشيفها، لأنها تعرف أنّ من يملك الأرشيف يملك التاريخ.
في الفضاء الثقافي، يُحتفى بالفلسطينيين كمبدعين وسط الحزن والموت، لكنهم يُعاقَبون إن تحدثوا في السياسة. تطلب المهرجانات والجامعات «الحياد»، أي الصمت عن الاحتلال. تُستخدم تعريفات «معاداة السامية» كسلاح لإرباك الحدود بين نقد إسرائيل ومعاداة اليهود، حتى يصبح الحياد اسماً جديداً للرقابة.
وعندما تُصنّف التظاهرات التضامنية كتهديد أمني، تبلغ السردية الاستعمارية ذروتها. فالفلسطيني مطالب أولاً بإثبات «براءته» قبل أن يُسمح له بالكلام. تصبح الدولة المحرر الأخير للنص. وهكذا يُعاد صياغة الرواية: استعمار قديم بوسائل جديدة، يكتب قصتنا بلغته، ثم يصفّق لنفسه على حسن الإصغاء.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
