سركيس قصارجيان
شهدت تركيا خلال الأيام الماضية حالة استثنائية من الحراك السياسي والأمني والإعلامي، بدأ بإعلان حزب العمال الكردستاني (PKK)، صباح الأحد الماضي، البدء بسحب قواته من الأراضي التركية نحو شمالي العراق، في سياق مسار تفاوضيّ غير معلن، يجري بواسطة قنوات سياسية واستخباراتية مباشرة بين الدولة التركية وعبد الله أوجلان، الزعيم التاريخي للحزب المعتقل في جزيرة إمرالي.
تبع الخطوة حدثان مهمّان شهدتهما العاصمة أنقرة يوم الخميس، أوّلهما لقاء وفد إمرالي من حزب “ديم” الموالي للأكراد، والمكوّن من السياسيين بيرفين بولدان ومدحت سنجار، مع الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، للمرة الثالثة منذ بدء مسار السلام.
والثاني عقد لجنة “التضامن الوطني والأخوة والديموقراطية” في البرلمان التركي، والمُشكّلة من أجل عملية السلام، اجتماعها السادس عشر، حيث قدّم وزير الخارجية هاكان فيدان ووزير العدل يلماز تونج عرضين أمام اللجنة، وبشكل مغلق أمام الصحافة.
البيان الأخير: تفكيك السلاح عبر الانسحاب أولاً
في البيان الذي تلاه القيادي في حزب العمال الكردستاني، والمسؤول عن العمليات العسكرية للحزب في داخل تركيا، صبري أوك، أعلن بدء سحب القوات من تركيا إلى “مناطق الدفاع” في شمالي العراق، من دون الحديث عن “تسليم السلاح”، في صياغة حملت دلالة سياسية، تاركاً الباب مفتوحاً أمام إمكانية الاحتفاظ بقدرات قتالية خارج الأراضي التركية، وعدم القبول الفوري بنزع السلاح الكامل، بانتظار ضمانات سياسية وقانونية من أنقرة.
البيان ذكّر بقرارات المؤتمر الثاني عشر للحزب، الذي شهد إعلاناً رمزياً عن “حرق السلاح” في تموز/ يوليو الماضي، ما يعطي المسار طابعاً مؤسسياً، وينفي كونه قراراً ظرفياً أو أحادياً، فيما اصطفت مجموعة قال عنها أوك إنها الأولى المنسحبة من تركيا على المنصة، في مشهد أعاد إلى ذاكرة الأكراد تشرين الثاني/أكتوبر 2009، حينما دخل 34 مقاتلاً من الحزب من مخيم مخمور عبر معبر خابور، وسط احتفالات جماهيرية للدفع بعملية السلام إلى الأمام.
يمكن اعتبار الفارق بين تلك التجربة، التي باءت بالفشل في حينها، وتجربة اليوم، في محاولة الطرفين تجنّب الرمزية المفرطة التي فجّرت الرأي العام سابقاً، والانتقال إلى مسار تدريجيّ متحكَّم به أمنيّاً وإعلاميّاً.
في الجانب التركي، سارع المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية عمر جليك إلى الترحيب الحذر، مؤكداً أن “هذه خطوة في إطار خريطة الطريق نحو تركيا خالية من الإرهاب”. سرعة الردّ ومستواه السياسي يشيران إلى أن الدولة كانت على علم مسبق بمضمون البيان وتوقيته، ما يعزز فرضية نشاط قنوات الاتصال المباشرة بين الطرفين.
سيناريو تدريجيّ لتسوية تاريخية في تركيا
حسب المعلومات التي حصلت عليها “النهار” من مصادر مطّلعة، أطلع وزير الخارجية فيدان اللجنة على عملية اندماج قوات سوريا الديموقراطية “قسد” ضمن الجيش السوري الجديد، فيما أطلع وزير العدل تونج اللجنة على الخطوات القانونية المُخطط لها تجاه حزب العمال الكردستاني بعد إتمام عملية نزع السلاح.
وبعد إنهاء اللجنة لقاءاتها تم اتخاذ قرار البدء بإعداد تقريرها الذي سيتضمن أيضاً لوائح قانونية مُحتملة على شكل توصيات لتنظيم الإطار القانوني والعدلي لعملية السلام.
وفق المصادر، يشمل مسار السلام الحالي ثلاث خطوات متتالية، بينها تقديم إحداثيات مخازن للأسلحة في جبال قنديل، ومخابئ جبلية، كإشارة رمزية إلى حسن النية، وتسليم عدد محدود من المقاتلين أنفسهم للسلطات بهدف استعادة تجربة رمزية محسوبة، بعيدة عن المشاهد الاحتفالية المثيرة، وعودة شخصيات سياسية كردية من الخارج محكومة بأحكام قضائية بسبب الارتباط غير المباشر بالحزب، ضمن عفو خاص يعلنه الرئيس التركي، إذا نضجت الظروف السياسية والأمنية والإطار القانوني والعدلي.
تقول المصادر إن مسار السلام يسير بخط مزدوج، وخطوات متقابلة، تشمل إشارات رمزية متتالية من قبل الحزب، مقابل تعديلات تشريعية انتقائية من الدولة، تمهيداً لدمج شخصيات كردية في الحياة السياسية، من دون الاقتراب من ملف القيادات العسكرية أو من حمل السلاح في المرحلة الأولى.
وتظلّ مشكلة الذاكرة الشعبية من أعقد التحديات أمام أنقرة، إذ أدت عقود الصراع إلى سقوط أكثر من خمسين ألف قتيل، وتركت قلوباً مثقلة بالألم بين المجتمعين التركي والكردي؛ لذا فإن أيّ مشهد سياسي أو إعلامي غير محسوب قد يعيد إنتاج اللحظة المأسوية، التي أطاحت بمسار 2009، خصوصاً مع الحساسية المفرطة لدى التيارات القومية والشعبوية في تركيا.
من هذه الزاوية، يبدو أن الدولة التركية تسعى إلى ضبط الإيقاع الصوري للعملية، وتجنّب مشاهد دخول مقاتلين حاملين رايات الحزب، كما حدث في خابور، ما يفسّر سير العملية اليوم ببطء، ضمن غرف مغلقة، وبخطاب سياسي حذر.
قائد
قائد
سوريا: العقدة التي بدأت تنفك
لكن لا يزال يتبلور داخل هذه العملية “معضلة مركزية” تتجاوز الحدود التركية، تتمثل في موقف “قسد” في سوريا، التي أكّدت مراراً رفضها لطرح أنقرة المتمثّل بتسليم سلاحها وحلّ نفسها بشكل كامل، وأن سوريا ليست جزءاً من مسار السلام في تركيا.
في المقابل، تصرّ أنقرة على أن أي تسوية في تركيا لن تكون مكتملة ما لم تتقاطع مع تسوية أوسع في سوريا، تشمل مستقبل الإدارة الذاتية الكردية ودورها في هندسة الخريطة السياسية الجديدة، خصوصاً مع الحديث المتزايد عن مسارات انتقال سياسي ما بعد الحرب.
وفي إشارة إلى احتمال الوصول إلى حلّ لفك العقدة السورية، قال موقع “نورث برس” الإخباري المقرّب من الإدارة الذاتية، يوم الأربعاء، إن “قسد” سلّمت التحالف الدولي قائمة تتضمّن نحو سبعين اسماً من قادتها العسكريين الذين سيشاركون في عملية الاندماج المرتقبة ضمن الجيش السوري، بثلاث فرق عسكرية سيتم ضمّها كفرق ضمن مناطق سيطرة الإدارة الذاتية في كلّ من الحسكة ودير الزور والرقة، إضافة إلى قادة ثلاثة ألوية خاصة تابعة لهيئة الأركان السورية، مع تخصيص نحو ثلاثين في المئة من مناصب قيادة الأركان لشخصيات من “قسد”.
وسيُعنى أحد الألوية الخاصة بمهام مكافحة الإرهاب، بالتنسيق المباشر مع قوات التحالف الدولي في مختلف أنحاء سوريا.
وكان قائد “قسد” الجنرال مظلوم عبدي قد صرّح في الذكرى العاشرة لتأسيس قواته بأنها ستشكّل جزءاً أساسياً من الجيش السوري قيد التشكيل، مع استمرار وحدات مكافحة الإرهاب التابعة لها في أداء مهامها على المستوى الوطني.
تقف تركيا اليوم أمام منعطف شبيه بما جرى قبل ستة عشر عاماً، غير أن أدواتها مختلفة، وقواعد الاشتباك تغيّرت، كما أن مراكز القوى في الداخل والخارج لم تعد كما كانت، فيما ستشكّل الأسابيع المقبلة اختباراً حقيقياً لمدى قدرة الدولة والحزب على تجاوز عقد الماضي، والوصول إلى معادلة أمنية وسياسية جديدة، قد تغيّر شكل تركيا والمنطقة بأكملها.
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار
 syriahomenews أخبار سورية الوطن
syriahomenews أخبار سورية الوطن
				 
 
		 
											 
											 
											
