آخر الأخبار
الرئيسية » تحت المجهر » أهالي غزّة «مذنبون بالارتباط» | «أمان»: 83% من القتلى مدنيّون

أهالي غزّة «مذنبون بالارتباط» | «أمان»: 83% من القتلى مدنيّون

 

يحيى دبوق

 

 

في خطاب تكرّر آلاف المرات، منذ السابع من أكتوبر 2023، يصرّ مسؤولون إسرائيليون إلى جانب إعلاميين على أنه «لا أبرياء في غزة». ويَفترض هذا «التبرير»، الذي يُستخدم لتسويغ الخسائر البشرية الهائلة في القطاع، أن كل مَن يعيش في غزة، من الأطفال إلى المسنّين، إمّا أنهم مقاتلون في صفوف «حماس» أو متواطئون/ متعاطفون معها، وبالتالي يمكن هدر دمهم. لكن وثائق داخلية عن الاستخبارات العسكرية التابعة للجيش الإسرائيلي (أمان)، كُشف عنها للمرّة الأولى في تقرير مشترك بين موقع «سيحا مكوميت» وصحيفة «غارديان» البريطانية ومجلة «+972»، فنّدت هذا الادّعاء.

 

ولم تَعُد عبارة «لا أبرياء في غزة» مجرّد رأي شعبي أو تصريح إعلامي عابر، بل أضحت في صلب الخطاب السياسي والأمني الرسمي. ففي نيسان الماضي، أعرب العضو في «الكنيست» عن حزب «الليكود»، بوعاز بيسموت، في مقابلة على «القناة الـ14» العبرية، عن اعتقاده بأنه «لا أبرياء في غزة»، وبأن «الحلّ العسكري هو اللغة الوحيدة التي يفهمها العدو». وعلى هذا المنوال، جاء تصريح وزير السايبر عن حزب «الليكود»، دافيد امسالم، خلال جلسة لـ»الكنيست» في كانون الثاني الماضي، حين قال: «لا يوجد تقريباً أبرياء في غزة. كل واحد منهم إمّا ابنه أو أخوه (مقاتل)».

 

ويجسّد هذا النوع من الخطاب، منطق «الذنب بالارتباط»، الذي يخالف صراحةً مبادئ القانون الدولي الإنساني، علماً أن هذا الأخير يرفض ربْط مسؤولية الفرد بعلاقاته العائلية، ويشترط أن يُعامَل كل شخص ككائن مستقلّ: بريء حتى يثبت عكس ذلك. هنا، يُستخدم الانتماء العائلي، وهو أمر خارج إرادة الفرد، كذريعة لحرمانه من صفة «البراءة»، بل وحتى من الحقّ في الحياة. ولأنّ الموقف المتقدّم كونه صادراً عن وزير في الحكومة، وليس مجرّد ناشط أو إعلامي، فإن ذلك يضفي عليه طابعاً رسمياً وسياسياً، ويظهر أن العقيدة الأمنية السائدة في المؤسسة الرسمية، لا ترى في سكان غزة كيانات بشرية تتمايز، بل كتلة واحدة «مذنبة جماعيّاً».

 

والمقولة، ليست حكراً على الخطاب السياسي الرسمي؛ فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز «أكورد» (آب 2025) أن 76% من اليهود الإسرائيليين يوافقون على عبارة «لا أبرياء في غزة»، التي باتت تعبيراً شائعاً في الخطاب العام، وفق موقع «سرغيم» الإخباري العبري، استخدمها أيضاً سياسيون مثل المُقرّب من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، رئيس «لجنة الخارجية والأمن» في «الكنيست» بوعاز بيسموت؛ ومن المعارضة رئيس حزب «إسرائيل بيتنا» وزير الأمن السابق أفيغدور ليبرمان، وكذلك عسكريون من ضباط وجنود خدموا أو أنهوا خدمتهم في قطاع غزة، وصولاً إلى فنّانين ومغنّين وكُتّاب.

 

العبارة تجد جذورها في خطاب ديني قومي يرى في الفلسطيني، حتى الطفل، تهديداً وجوديّاً

 

 

على رغم كل ذلك، يُظهر الانقسام تفاوتاً بين خطاب الأكثرية اليمينية والأقلية اليسارية، إذ تسعى الأخيرة إلى منع تراكم وتنامي الصورة السيئة لإسرائيل لدى الرأي العام الدولي. فوفقاً لاستطلاع الرأي، فإن87% من مؤيّدي الائتلاف الحكومي، يوافقون على المقولة بدرجة عالية، في مقابل رفض جزئي من 70% من مؤيّدي اليسار، علماً أن هذه الكتلة تراجعت كثيراً في السنوات الماضية. وتشير هذه المعطيات إلى أن الظاهرة تتجاوز الانتماء الحزبي، وتستحكم في الوعي الجمعي للإسرائيليين؛ إذ لا يقتصر الأمر على الرأي العام فحسب، بل يمتدّ إلى الإعلام العبري، الذي يُعدّ شريكاً في صناعة الرأي العام نفسه.

 

وبحسب استطلاع آخر لمركز «أكورد» (حزيران 2025)، تبيّن أن 64% من الإسرائيليين، يرون أن على وسائل الإعلام «ألّا تغطّي معاناة سكان غزة»، و41% يرون أن القنوات الرئيسية (12 و13) «منحازة إلى مصلحة الفلسطينيين!!»، على رغم أن دراسات مستقلّة كشفت عن غياب شبه تامّ لصور المدنيين القتلى من الفلسطينيين في التغطية الإسرائيلية. في السياق نفسه، تعمل وسائل إعلام محسوبة على اليمين، على توظيف شهادات فردية مثيرة و»رنّانة» لتعزيز الصورة النمطية للفلسطينيين كمجرمين وإرهابيين. ففي نيسان الماضي، استضافت «القناة الـ14» شخصية تُدعى دور شحر، تدّعي بأنها «وُلدت مسلمة في غزة ثم تحوّلت إلى اليهودية».

 

وقالت على الهواء: «لا يوجد هناك أبرياء، 99% منهم مُخرِّبون»، واصفةً غزة بأنها «مكان من الجحيم، مخصّص لسفك الدماء». وعلى شاكلة هذه الشهادة، يمكن قياس ما يتلقّاه الجمهور الإسرائيلي، الذي يتفاعل مع هكذا روايات، لأنها تعظّم اعتقاداته وتؤكّد عليها. فمثل هذه الشهادات، على رغم طابعها الذاتي الاستثنائي، تُستخدم بإفراط لإضفاء «مصداقية» على الخطاب الجمعي الإسرائيلي؛ وإن كانت تتناقض جذريّاً مع البيانات الاستخبارية الرسمية نفسها، التي تُظهر أن معظم القتلى في غزة هم مدنيون.

 

وعلى رغم هذا الإجماع الظاهري، فإن قاعدة بيانات مُصنّفة داخل الاستخبارات العسكرية، «أمان»، كشفت أنه حتى منتصف نيسان 2025، سُجّل مقتل 7,330 مقاتلاً من «حماس» و»الجهاد الإسلامي»، بشكل مؤكّد، فيما قُتل «على الأرجح» 1,570 آخرون، ليصبح المجموع «مع تشكيك نسبي» هو 8,900 مقاتل.

 

وفي المقابل، أفادت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، بأن إجمالي عدد القتلى بلغ 52,928 فلسطينياً في نفس الفترة. وبإجراء مقارنة بين الرقمَين، يتبيّن أن: نسبة المقاتلين من مجموع القتلى، لا تتجاوز الـ17%، فيما 83% هم مدنيون من نساء وأطفال ومسنّون ورجال غير مسلّحين.

 

وحتى في حال كان الرقم الحقيقي للقتلى أعلى (أي ما يشمل الجثث المدفونة تحت الأنقاض، والتي تُقدّر بـ10,000 وفق الأمم المتحدة)، ترتفع نسبة المدنيين إلى أكثر من 85%. وفي تقرير صادر عن منظّمة «أطباء بلا حدود»، في آذار 2025، وثّق فريق طبّي دولي في مستشفى «ناصر» في خان يونس، حالة طفلة تبلغ من العمر 4 سنوات، أُدخلت بعد قصف على منزل عائلتها في رفح: لم تكن تحمل سلاحاً، ولا أحد من أفراد أسرتها ينتمي إلى أيّ فصيل مسلّح. ومع ذلك، وُصفت في بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية لاحقاً، بناءً على «مصادر عسكرية»، بأنها «من عائلة مشبوهة».

 

ويوثّق التحقيق نفسه ممارسة منهجية داخل الجيش الإسرائيلي: تصنيف المدنيين القتلى «إرهابيين» بعد وفاتهم؛ إذ ووفقاً لضباط شاركوا في العملية المُشار إليها (قصف منزل الطفلة)، فإن «الناس يُرفعون إلى مرتبة المخرّب بعد موتهم.

 

لو صدّقت ما تقوله الفرقة، لظننت أنّنا قتلنا 200% من مقاتلي حماس في المنطقة». وثَبت هذا النمط في حالات أخرى: ففي رفح، قُتل نحو 100 فلسطيني في عملية قصف إسرائيلية، وُصفوا جميعاً بأنهم «مخرّبون»، بينما اعترف ضابط في الكتيبة لاحقاً، بأن «اثنين فقط كانا من حماس، والبقية مدنيون غير مسلحين». وفي وحدة عسكرية أخرى، أُبلغ أن 200 «مخرّب» قُتلوا، لكن التحقيق الداخلي بيّن أن 10 فقط كانوا أعضاء موثّقين في «حماس».

 

ويخالف خطاب «لا أبرياء في غزة»، سواء في صيغته الشعبية أو الرسمية، المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني في أوقات الحرب. فالمادة 51 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977، التي صادقت عليها إسرائيل فعليّاً، تنص صراحة على أن «السكان المدنيين، وأيضاً الأفراد المدنيين، يتمتّعون بالحماية العامة من مخاطر العمليات العسكرية»، وتشدّد على أن «أيّ هجوم يوجَّه ضدّ السكان المدنيين ككلّ، أو يستهدف أفراداً مدنيين، يُعدّ غير مشروع». وقد حذّرت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، مراراً، من أن «الخطاب الذي ينفي الإنسانية عن مجموعة سكانية، أو يفترض تواطؤها الجماعي، يُعدّ مؤشراً تحذيريّاً مبكراً إلى جرائم ضدّ الإنسانية».

 

في هذا السياق، لا يعود القول «لا أبرياء في غزة» مجرّد زلة لسان، بل أداة أيديولوجية تُستخدم لتغطية ممارسات قد تشكّل جرائم بموجب «نظام روما الأساسي» لـ»المحكمة الجنائية الدولية».

 

تبقى الإشارة إلى أن العبارة تجد جذورها في خطاب ديني قومي يرى في الفلسطيني، حتى الطفل، تهديداً وجوديّاً. وقد تكرّرت علناً في بيانات رسمية، وفي خطابات حاخامية، بل وحتى في ملصقات دعائية تكثّفت كثيراً خلال الحرب الحالية، في مسعى إلى ترسيخ الاعتقاد بأن الآخر هو كائن لم يرقَ بعد إلى مستوى أن يكون بشريّاً.

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١-الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

العدو يستغلّ الهدوء لملء بنك الأهداف: التزامات أميركية جانبية لإسرائيل؟

  يوسف فارس   تركت موجة الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة، ليل الثلاثاء – الأربعاء، والتي خلّفت أكثر من 100 شهيد في غضون 10 ساعات ...