مالك صقور
يعرفُ الإنسان على أي أرض يولد ..
ولا يعرف على أي أرض يموت ..
لكن هذا الإنسان لا يختار وطنه حين يولد . مع ذلك ، في عمر محدد يُعطى بطاقة لإثبات شخصيته ، تُسمى هوية . كي يُعرف مَنْ هوَ .
في القاموس : ” الهوية – حقيقةُ الشيء المطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية . وذلك منسوب إلى هُوَ كي يتميز عن غيره” . هذه هي الهوية الشخصية لكل فرد . وبالإضافة إلى ذلك ، في هذه البطاقة التي تُسمى ( تذكرة الهوية) ثمة رقم كبير – هو الرقم الوطني : هذا الرقم يدّل ويحمل اسم الوطن .
وطن . موطن . مواطن . ..فما هو الوطن ؟
هل هو جبال وجرود وسهول ووديان وأنهار وتخوم وحدود و مدن وقرى ، أي مجرد جغرافيا ؟!
أم تراث وميراث وملاحم وأساطير وحكايات وثقافة وأدب وروايات وقصص وشعر وعادات وتقاليد ، أم خريطة على حائط وكتاب تاريخ في مكتبة أو على الرف ؟
أم شعب حي من روح وجسد وعظم ولحم ومشاعر وأحاسيس ؟!
أم هذا كله ؟
حقاً ، ماهو الوطن ؟!
ومن أين يبدأ الوطن ؟ وأين ينتهي هذا الوطن الذي نحمل هويته التي نتباهى بها ونفخر بأننا نحمل هوية وطن تضرب جذوره في أعماق التاريخ قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام . ومن أمة هي خير أمة ، كما جاء في القرآن الكريم :” كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ” .
لكن ، بصراحة ، ما أن تُذكر كلمة وطن .. حتى يقفز إلى الذهن مباشرة قول الإمام علي كّرم الله وجهه : ” الفقر في الوطن غربة ،والغنى في الغربة وطن ” .. وهذا يًذكّر بقول الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري :” إذا ذهب الفقرُ إلى بلد قال له الكفرُ : خذني معك ” .
هل ياترى خرجت عن موضوع العنوان ؟
من وجهة نظري ، لا ، لم أخرج . لأن الحديث عن الهوية الوطنية والهوية الثقافية ، يتطلب الحديث عن (حامل) الهوية ، الذي هو المواطن – الإنسان . فإذا مات حامل الهوية – ماتت هويته معه ، وشُطب اسمه في دوائر النفوس . ( هذا على الصعيد الفردي ) . فما العمل للحفاظ على الهوية الجماعية : الوطنية و الثقافية ؟
هذا يتطلب الرجوع إلى الشعب و المجتمع . فالشعب – هو المكّون الأول للوطن . الشعب بكافة أطيافه . والبحث في القضايا المهمة الكبيرة والصغيرة لهذا الشعب ، جملة وتفصيلاً . ( بدءاً من لقمة العيش ، والمسكن ، والتعليم ، وتأمين فرص للعمل ، وتكافؤ الفرص ، وكل مستلزمات البنية التحتية ، والأهم : الحفاظ على كرامة المواطن . لأن كرامة الوطن من كرامة المواطن ) . فلا يمكن لمواطن مقموع ومقهور ومذل ومهان وجائع أن يبني وطناً .وهذا يتطلب الأمن والأمان ، وسيادة القانون ، والحرية ، والعدالة .
وإذا عدنا إلى مكونات الهوية الوطنية – الحضارية والثقافية .. أقول : يحق للمواطن السوري أن يفتخر بهويته السورية – الحضارية التي تضرب جذورها في أعماق التاريخ . وأذكركم بقول عالم الآثار الفرنسي شارل فيرلو الذي فكّ رموز أبجدية أوغاريت في تل شمرا قرب اللاذقية . يقول شارل فيرلو : ” لكل إنسان وطنان ، وطنه الأم و سورية ” . ولا أعرف إنْ كان عالم الآثار الفرنسي هذا أن الأسكندر الأكبر المقدوني قد سبقه إلى ذلك ، فحين وصل الأسكندر إلى سوريا وأقام معسكره بين اللاذقية و انطاكية بالقرب من نبع ماء فياض ، وعندما شرب من هذا النبع ، قال : ” ماء هذا النبع يذكرني بحليب أمي – سوريا هي وطني الثاني ” . وكان ذلك عام 333 قبل الميلاد .
من غير أن ننسى مملكة ماري وإيبلا وآفاميا وتل مرديخ وتدمر وبصرى ..بالإضافة إلى ذلك : من سوريا انطلقت رسالة السيد المسيح عليه السلام . إلى العالم . ومن سوريا أيضا انطلقت رسالة سيد المرسلين – رسالة الإسلام شرقاً حتى السند والهند والصين ، وغرباً إلى اسبانيا وفرنسا ، وشمالاً حتى آسيا الوسطى وروسيا .
من سوريا ، انطلقت أولى المسرحيات ، قبل أن يعرف العالم ماهو المسرح . ففي كتابه (تاريخ سورية ) ، يؤكد هذا المؤرخ فيليب حتي .
وإذا كانت السياسة و الآقتصاد توأمين لاينفصلان ، فهل يمكن فصل الثقافة عنهما ؟
لقد تمّ تعريف الثقافة قديما ً وحديثاً ، ومن المفيد تحديد معنى كلمة “ثقافة ” ، لما لهذه الكلمة في الأذهان من دلالات مختلفة من خلال استخدامها في شتى مناحي الحياة . لكن الذي يجب معرفته الآن ، أن كلمة “ثقافة ” عند العرب ، ارتبطت بالوطنية . والمفهوم الصحيح للثقافة الوطنية كان يُحدد من الصراع بين الثقافة الوطنية و الثقافة الإستعمارية . إذ لم يكن يُنظر لمفهوم الثقافة الوطنية من زاوية ما يحمله المثقفون من معارف وعلوم – حسب د. محمد عابد الجابري .
فمن المعروف ، أن الاستعمار لايسعى للسيطرة الاقتصادية والهيمنة السياسة والإستيطانية فحسب ، بل يسعى لفرض ثقافته ، وطمس معالم الثقافة الوطنية ، ومن غير طمس الثقافة الوطنية لا يستطيع الإستعمار أن يفصل الشعب عن ماضيه وعن حضارته وحتى عن انتمائه ، وإلغاء ذاكرته . وبهذا الصدد يجب أن نتذكر ( إعلان مكسيكو- بشأن الثقافة عام 1982) . حيث عُقد مؤتمر عالمي معني بالثقافة و السياسات الثقافية ، وقد حضره 460 مشاركاً من 126دولة ، وقد أجمع المؤتمر على رفض الترتيب التنازلي في الثقافات . إذ لا يوجد ما يسوغ التمييز بثقافات أعلى منزلة وثقافات أدنى منزلة ، وتمّ التأكيد على احترام جميع الثقافات ، كما شدّد على الهوية الثقافية التي تعني الدفاع عن التقاليد والقيم الأخلاقية والفكرية والعاطفية والتاريخية . وقد تمّ تعريف الثقافة وفق إعلان مكسيكو كالتالي : (( إن الثقافة بمعناهاالأوسع ، هي مجموعة السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميّز مجتمعاً بعينه ، أو فئة اجتماعية بعينها ، وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة ، والإنتاج الاقتصادي ، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظُم القيم والأعراف والتقاليد والمعتقدات )). أما مستويات الهوية الثقافية فهي : فردي ، وجماعي ، ووطني . لذلك دائماً أقول : إن الإبداع عمل فردي ، أما الثقافة فهي عمل جماعي . فمن أجل خلق أو تجديد الثقافة الوطنية وفق هذا المفهوم ، يفترض العودة إلى الشعب والمجتمع ، وإجراء دراسة شاملة كاملة لأحوال المواطن في المجتمع ، وتكون الدراسة بمثابة عملية سبر حقيقية : اجتماعية ، اقتصادية ، سياسية ، تربوية ، ثقافية تشمل كافة أطياف المجتمع ومكوناته : الحزبية منها والدينية ، ليتم استنتاج الحلول والوصول إلى حاجات المواطن وتطلعاته .
وهنا ، لا بد من ذكر مهدّدات الهوية الوطنية والثقافية أيضاً : الفقر الذي يوّلد الجهل . التطرف الذي يؤدي إلى التعصب ، والتعصب الذي يؤدي إلى العمى ثم إلى ارتكاب الجرائم وتطبيق عملية إقصاء الآخر وإلغائه . عدم سيادة القانون ، وتفشي المحسوبيات ، والفساد بكافة أشكاله الذي يؤدي إلى الظلم والرشوة والإستغلال وانعدام العدالة والمساواة . غياب الأمن والأمان ، وانتشار النزعات الطائفية البغيضة والقبلية والعشائرية غياب الاستراتيجيات التنموية ، غياب تكافؤ الفرص ، وتزايد البطالة وانسداد آفاق المستقبل بوجه الأجيال الشابة – هذا كله يهدد الهوية الوطنية ، ويوّلد شعوراً عميقاً بالظلم والإحباط ، وبالتالي يُضعف الشعور بالإنتماء للوطن ويجعله بيئة طاردة وهذا الذي يُجبر الناس على الهجرة . وهنا لم يُعد للهوية أي قيمة .
ويقال : إن تجليات الهوية الوطنية ومكوناتها هي :
– حب الوطن
– الإنتماء
– الولاء
وفي يقيني أن رفع الشعار أمر ، وفي الواقع أمرآخر . فالحب أياً كان .. شعور وسلوك وتصرف قبل أن يكون كلاماً أو شعاراً . والسؤال هنا : هل (حب الوطن ) لدى الغني مثله عند الفقير ؟! وعلى سيبل المثال : هل يدافع حارس فقير وجائع عن قصر فخم سافر أصحابه للإستجمام والسياحة في مونتي كارلو أو الريفيرا أو ليجربوا حظهم بالقمار ؟!
فكيف لك أن تحب وطناً أو تدافع عنه ، وليس لك فيه بيتاً يؤوي أطفالك ، وليس لك فيه مساحة مغرز إبرة ؟!وغيرك يمتلك العقارات والمتاجر والأموال و . و.
وفي رأيي ، ومن أجل تعزيز الهوية الوطنية وتمكينها ، من الضروري تلبية الحاجات الماسة للمواطن :
1 – إعادة هيبة المعلم – معلم المدرسة . صاحب الضمير المسلكي . وهو كفيل بالتربية الوطنية الصحيحة والأصيلة . المعلم الذي كان في أربعينات وخمسينات وستينات القرن الماضي .
2 – إعادة كرامة المواطن – الإنسان ..فكرامة الوطن من كرامة المواطن .
3 – إلغاء وسائط النقل الداخلية – السرافيس ، واستبدالها بباصات كبيرة كما كانت في الماضي . فدخول المواطن على هذه السرافيس منحنياً وخروجه منحنياً ، فًقًدً خلال أربعين عاما كرامته وشجاعته ، وجعله في خانة المذلين المهانين .
4 – سيادة القانون – تطبيق القانون على الجميع . وتعزيز حصانة القاضي ، أي تجعله غنياً عن الرشوة ، وبعيداً عن الإملاءات والمحسوبيات .
5 – إيقاف التلاعب بلقمة عيش المواطن
6 – لجم غول الغلاء المتوحش الذي زاد الفقير فقراً ، والغني غنىً .
7 – وضع حد لجشع التجار .
8 – الحاجة الماسة إلى الوعي بالحرية .. والوعي بالديمقراطية .
9 – إلغاء التعليم الخاص ، في المدارس ، وفي البيوت ، وفي الجامعات التي تعتمد على الحصول على المال وتفريخ خريجين بواسطة المال لا بقدرة الطالب وجهده و اجتهاده .
10 – ردم الفجوة بين المواطن و المسؤول . والأهم ، معالجة الروتين والبيروقراطية ، ومساعدة المواطن ، وعدم عرقلته والمماطلة والتسويف بمعاملات المواطنين من أجل الابتزاز والرشوة .
11 – إعادة الطبقة الوسطى ، فهي الرافعة الحقيقية للثقافة ، وحاملة الهوية الوطنية والثقافية .
أقول قولي هذا ، من غير أن يغيب عن البال دور المواطن نفسه ، ودور المثقف أيضاً ، لكن الأمر يبقى بيد من يملك القرار والإرادة . وأخيرا أعود إلى ما بدأت به :
إن الإنسان لا يختار وطنه ، و لادينه ، و لا طائفته ، حتى ولا اسمه . يقول سيد المرسلين الرسول الأعظم (ص) : “يولد المرء على الفطرة ، فأهله يهودانه أو يمجاسنه ، أو ينصرانه ”
وفهمكم كاف ..والسلام عليكم .
(اخبار سوريا الوطن-1)
syriahomenews أخبار سورية الوطن
				
 
		
											
											
											