أتخيّل إمكانية أن نستمع إلى أصوات الماضي الهائمة في فضاء المكان حولنا، آلاف الأحاديث السرية والثرثرات والمحاورات، وصرخاتُ ألمٍ ممزوجة بضجيج حروب تعبرها فجأة موسيقا بيانو أو عود أو ناي… ما الذي يبقى فعلياً من تلك الهمهمات والحشرجات والتأوّهات؟ ما الذي سينطبع على شريط ذاكرتنا المغناطيسي لنستعيده مراراً وتكراراً كما لو أننا نشاهده على شاشة الزمن الحاضر الحريرية؟
سألتُ بعض الأصدقاء عما خزّنته ذاكرتهم من أصوات، فجعلني نهرُ كلماتهم أفكر بشيءٍ من فانتازيا مخيفة أو بلمسةِ الخيالٍ العلميّ الغرائبي بأن هناكَ كمبيوتراً كونيّاً عملاقاً أو “سيرفر” ضخماً يحتفظ بآلاف الغيغابايت من أشيائنا البشرية وسيكون بإمكانِ تلك المخلوقات الكونية الأخرى سماعَنا بعد اختفاء البشر!
رائحةُ الصوت!
مفاجأة سؤالي للأصدقاء أيقظت عنقاءَ حنينهم لذكرياتٍ عاشوها بكامل شغفهم، فالكاتبة تغريد مصطفى قالت: “أجمل الأصوات تلك التي بقيت في ذاكرتي وأحب أن استرجعها، هي التي كنتُ أسمعها وأنا في بيت جدي في ضيعة جبلية من قرى مصياف/حماة، حين كان يمتزج، عند الفجر، صوت الراعي وهو ينادي على العنزات، مع صوت النساء وهنّ يخبزنّ على التنور، مع صوت أحاديث أهل الضيعة عن أدوارهم في سقاية الأرض، أصواتٌ عالية لكنها غير مزعجة، ذاك المزيج النادر من الأصوات، كوّن رائحةً خاصة ما زلت أشمّها حتى اليوم كلما زرت بيت جدي، أمّا في أيامنا هذه، أكثر ما يأسرني وسط هذا الضجيج هو: الصمت، صوت الحزن الصامت، وصوت العطاء الصامت.”
منذ دهر من الزمان!
وحين طلبت من صديقي المخرج المسرحي وائل علي أن يشاركني أفكاره عن الصوت وغوايته، أجابني كما لو أننا نكمل حديثاً بدأناه قبل سنينَ طويلة أيامَ الدراسة الجامعية، قال لي:
“فكرتُكَ عن الصوت جعلتني اكتشفُ كم أنني كائنٌ بصريٌّ، مع ذاكرة بصرية مخيفة، يعني من دون النظر أصبح لا شيء! صورتُك مثلاً عندما أتذكّركَ تطلع على بالي بلا صوت. أشتاق لك بلا صوت أيضاً، وكل الصور بلا أصوات، باستثناءات قليلة جداً، وإذا كنتَ أنتَ ممن يعشقون الأصوات ويحفظونها؛ فبإمكانك لصْقُ صوتي على الصورة وأنْ تعمل شوقاً مرئياً مسموعاً في خيالك! تسألني عن أيُّ الأصوات؟ وتطلعُ في بالي صورةُ شخصٍ واقفٍ أمام شباك، يتأملُ سماءً رماديةً، فيما قبل لحظة واحدة كانت قد مرّت سيارةٌ في جوفها راديو قديم “موجتو عم تخشّ” وهناك صوتُ أغنية يُسمَعُ لأربعِ ثوانٍ لدرجة أنه لا يمكنُه تمييز الأغنية بدقة لكنه يُحسُّ إحساس غامض أنه يعرفُ ذاك اللحن جيداً… بل يعرفه منذ دهرٍ مِن الزمان”.
صوتُ الهمس!
أمّا والدي فقد أجابني كتابةً: “هو صمتٌ من نوع الهمس في قائظة صيف قديم؛ حيث صوت قبّرات يتصادى بعيداً، وأزيزُ ذبابةٍ عابرةٍ… ولا شيء آخر سوى زرقة بعيدة، فوق في مكان لا يمكن تحديده، من خلل عينين شبه مغمضتين على خدر، خلفَ ستارةٍ تمّت تسويتها بعناية لتتركَ ظلاً بارداً يكفي للتمدد والاسترخاء بعد ساعات بدأتْ مع عملٍ ما في الصباح، وانتهتْ بـ (قرص شنكليش وهبّول تين ورغيف تنّور)”!
يماماتُ الصدى!
الصوت دلالةٌ إذاً… طِباقٌ بين الفكرة وتجسيدها.. إنه الصوت المتحوِّلُ إلى صورةٍ في وعينا وخيالاتنا، الصوتُ جريانُ الروح في قصب الناي، صهيلُ أحصنة برّية في السهل، لعِبُ الرياحِ بشعورها المتمرجحة، موّالٌ عتيقٌ يشقّ الروح، وضحكةُ فرحٍ تـُرتق جسداً مزّقه الملل!
وفي فضاء الاحتمالات التي نتكوّن منها، وحين يُغرينا أن نختارَ عدةَ “أصواتٍ” للاختباء خلفها؛ يبقى “صوتُ الشخصية الحقيقي” هو الدليلُ المترفُ في وضوحه على أننا لن نستطيع الهربَ من كوننا نحنُ ما نحنُ عليه حتى لو غيّرنا لونَ عيوننا وأسمائنا.
ولكن أيضاً، حينَ تمسُّنا الموسيقا وتسعى الأرواحُ إلى بعضها كالتقاءِ الماءِ بالماء… لحظتَها سأطلق صوتي في الكون وأقول لكم: أحبكم… لعلّ يماماتِ الصدى تعود يوماً ما حاملةً في مناقيرها غصنَ المحبة.
syriahomenews أخبار سورية الوطن
