تخطو سوريا في هذه المرحلةِ السياسيّةِ خطواتٍ اقتصاديّةً ضخمةً، مدعومةً بما تشهده البلادُ من انفتاحٍ إقليميٍّ وعالميٍّ يفتحُ الأبوابَ السوريّةَ أمام مشروعات استثماريّةٍ قد تنهضُ بالاقتصادِ الوطنيِّ المنهكِ إلى مستوياتِ الاقتصادِ الذكيِّ والرقميِّ، وهو ما طرحته شركةُ “موانئ دبي العالميّة”، التي تستثمرُ في ميناءِ طرطوس في سوريا بقيمةِ 800 مليون دولار.
فالشركةُ الإماراتيّةُ، التي تُعدّ من أهمِّ الشركاتِ العالميّةِ في الاستثمارِ بقطاعِ النقلِ البحريِّ، تسعى من خلالِ هذا المشروع الضخمِ إلى تطويرِ ميناءِ طرطوس وتحويلِه إلى مركزٍ تجاريٍّ عالميٍّ يقدّمُ الدعمَ اللوجستيَّ بتقنياتٍ عاليةٍ.
وهو ما أكّد عليه المديرُ التنفيذيُّ للمشروعِ في “موانئ دبي العالميّة”، فهد البنّا، الذي قال: إنّ “هدفَ شركةِ دبي هو تحويلُ ميناءِ طرطوس إلى بوّابةٍ بحريّةٍ عالميّةِ المستوى، باستخدامِ التكنولوجيا الحديثة لتطويرِ الميناءِ ليصبحَ مُمكَّنًا رقميًّا”.
البنّا أكّد أنّه من خلالِ التعاونِ الوثيقِ مع الحكومةِ السوريّةِ، ستسهمُ الشركةُ في تطويرِ الممارساتِ اللوجستيّةِ بشكلٍ يتماشى مع أفضلِ المعاييرِ الدوليّةِ، وسيكونُ التركيزُ على التدريبِ المتخصّصِ للموظّفينَ المحليّينَ لضمانِ رفعِ كفاءاتِهم التشغيليّةِ.
ميناءُ طرطوس رقميّاً
تُدخلُ شركةُ “موانئ دبي العالميّة” ميناءَ طرطوس إلى العالمِ الرقميِّ من خلالِ إطلاقِها منصّاتٍ رقميّة جديدة، وتدريبِ الموظّفينَ لرفعِ المستوياتِ والمعاييرِ التشغيليّةِ، ما يجعلُ ميناءَ طرطوس “مُمكَّناً رقميّاً”، ويُطوّرُ العملياتِ داخله ويجعله منارةَ جذبٍ لشركاتِ الشحنِ العالميّةِ، وبالتالي يضعُ سوريا على خريطةِ الموانئِ الذكيّةِ.
فتطويرُ الموانئِ تكنولوجيّاً من شأنِه أن يُحدثَ تحوّلاً جذريّاً في إنتاجيّةِ ومستوى الميناءِ، من خلالِ رفعِ القدرةِ التشغيليّةِ رقميّاً، ما يُسرّعُ في عملياتِ التحميلِ والتفريغِ دونَ هدرٍ للوقتِ والأموالِ.
كما أنّ رصدَ ومراقبةَ الشحناتِ تكنولوجيّاً والقدرةَ على التحكّمِ في وصولِها إلى المرافقِ قد يرفعُ مستوى تأمينِها وسلامتِها.
علاوة على ذلك، فإن وجودَ ميناءٍ مزوّدٍ بأحدثِ التقنياتِ يسهم في جذبِ المستثمرينَ وشركاتِ الشحنِ العالميّةِ الراغبةِ في تحقيقِ أقصى كفاءةٍ لعمليّاتها.
ومع إعلانِ “موانئ دبي العالميّة” عن تطبيقِ الحلولِ الرقميّةِ، فإنّ ذلك يُسهمُ في تحسينِ عملياتِ الشحنِ والتفريغِ ويُعزّزُ القدرةَ التنافسيّةَ، كما أنّ المشروعَ يسهم في دعمِ البُنيةِ التحتيّةِ الرقميّةِ لسوريا.
ما أهميّةُ ميناءِ طرطوس؟
يعكسُ حجمُ استثمارِ شركةِ دبي لرقمنةِ ميناءِ طرطوس، والذي يبلغُ 800 مليون دولار، أهميّةَ هذا الميناءِ جغرافيّاً، إذ يقعُ ميناءُ طرطوس على البحرِ الأبيضِ المتوسّط، وهو يمثّلُ نقطةَ وصلٍ حيويّةً بين آسيا وأوروبا، وهذا الموقعُ يتيحُ لسوريا فرصةَ استعادةِ دورِها الحيويِّ في التجارةِ البحريّةِ العالميّةِ، ويجعلُ منها جزءاً محوريّاً في شبكاتِ النقلِ العالميّةِ، ويسمحُ لها بالمنافسةِ مع دولٍ، مثل تركيا ولبنان، ويُعزّزُ من الدورِ الإقليميِّ لسوريا في المجالِ التجاريِّ.
إعادةُ الإعمارِ في سوريا تتطلّبُ شروطاً سياسيّةً واقتصاديّةً بدأت تتوفّرُ مع انتصارِ الثورةِ السوريّةِ، إذ كُسرت العزلةُ السياسيّةُ عن دمشقَ، وبدأت أخبارُ رفعِ العقوباتِ تتكرّرُ على المنابرِ السياسيّةِ في واشنطن، والتي كان آخرُها في لقاءِ السيّد الرئيس أحمد الشرع مع نظيرِه الأميركيّ، لتبدو سوريا اليومَ مركزَ جذبٍ للاستثماراتِ، خاصّةً في إعادةِ الإعمارِ.
ويأتي مشروعُ شركةِ “موانئ دبي العالميّة” في ميناءِ طرطوس، الذي يُعدّ أكبرَ الاستثماراتِ العربيّةِ والعالميّةِ حتى الآن، ليحوّله إلى مركزٍ لوجستيٍّ عالميٍّ يُلبّي حاجاتَ المستثمرينَ في مجالِ إعادةِ الإعمارِ في سوريا، ويُعزّزُ ثقتَهم في البيئةِ السوريّةِ المستقبليّةِ.
كما أنّ تحديثَ البُنيةِ التحتيّةِ وتطويرَ القدراتِ اللوجستيّةِ سيحوّلُ ميناءَ طرطوس إلى أساسيٍّ وهامٍّ لتجارةِ الحاوياتِ والشحنِ البحريِّ في منطقةِ الشرقِ الأوسط، مّا يسهم في جذبِ مزيدٍ من الاستثماراتِ الخارجيّةِ ويدعمُ دخولَ سوريا التنافسيَّ في السوقِ الإقليميِّ والدوليّ.
“موانئ دبي العالميّة” (DP World) تعتبر واحدةً من الشركاتِ الرائدةِ في قطاعِ النقلِ البحريِّ على مستوى العالم.
تأسّست في عام 2005، وهي جزءٌ من مجموعةِ دبي العالميّةِ المملوكةِ لحكومةِ دبي.
وتُديرُ الشركةُ أكثرَ من 80 ميناءً ومنطقةً لوجستيّةً حولَ العالم، بما في ذلك موانئُ في مناطقٍ استراتيجيّةٍ مثل آسيا وأفريقيا وأوروبا.
ويُعتبرُ ميناءُ جبلِ علي في دبي أحدَ أكثرِ موانئِ العالمِ ازدحاماً، إذ يمثل المثالَ الأفضلَ على نجاحِ “موانئ دبي العالميّة” في تطويرِ موانئَ حديثةٍ وفعّالةٍ باستخدامِ تقنياتٍ متطوّرةٍ.
وتُركّزُ الشركةُ على تحسينِ الأداءِ من خلالِ الأنظمةِ الرقميّةِ، والذكاءِ الاصطناعيِّ، والأتمتةِ، لتُصبحَ اليومَ “موانئ دبي العالميّة” محوراً اساسياً في تطويرِ الموانئِ الذكيّةِ على مستوى العالم، باعتمادِها على التقنيةِ المتقدّمةِ في إدارةِ العملياتِ البحريّةِ.
ما هي الموانئُ الذكيّةُ؟
الموانئُ الذكيّةُ والتي سيصبح ميناء طرطوس إحداها، هي موانئُ تعتمدُ على التقنياتِ الحديثةِ، مثل الذكاءِ الاصطناعيِّ، الإنترنت (IoT)، والتحليلاتِ الكبيرةِ للبياناتِ لتحسينِ كفاءةِ العملياتِ.
وهذا التحوّلُ يجعلُ الموانئَ أكثرَ قدرةً على التعاملِ مع حركةِ البضائعِ بشكلٍ أسرعَ وأكثرَ أمانًا، من خلالِ أتمتةِ العديدِ من العملياتِ، مثل الشحنِ والتفريغِ والتخزينِ باستخدامِ الروبوتاتِ وأنظمةِ تتبّعِ الحاوياتِ، ما يُتيحُ للعملاءِ تتبّعَ شحناتِهم في الوقتِ الفعليِّ.
تُعتبرُ الموانئُ الذكيّةُ خطوةً كبيرةً نحوَ تحسينِ سلسلةِ التوريدِ، وزيادةِ الفعاليّةِ التشغيليّةِ، وتقليلِ التكلفةِ، وتستخدمُ هذه الموانئُ المنصّاتِ الرقميّةَ لتعزيزِ الاتصالِ بين الأطرافِ المختلفةِ، مثل شركاتِ الشحنِ والموانئِ والمورّدينَ، ما يُقلّلُ من الفاقدِ الزمنيِّ ويوفّرُ تكلفةً أقلَّ للمورّدينَ والمستوردينَ.
فتحَ التغييرُ السياسيُّ وانتصارُ الثورةِ في سوريا كلَّ الأبوابِ التي كانت موصدةً سابقاً، خاصّةً في مجالِ الاقتصادِ والاستثمارِ، ومدّت الجسورَ السياسيّةَ سجاداً اقتصادياً تخطو عليه سوريا مجدداً لتكونَ ملتقى التجارةِ العالميّةِ عبرَ موقعِها الجيوسياسيِّ.
وعن أهميّةِ استثمارِ شركةِ “موانئ دبي العالميّة” في ميناءِ طرطوس، يقولُ الأستاذُ عبد الرحمن ددم، رئيسُ فرعِ حلبَ لنقابةِ الاقتصاديّينَ في سوريا: إنّ “استثمارَ شركةِ “موانئ دبي العالميّة في ميناءِ طرطوس بقيمةِ 800 مليون دولار لمدةِ 30 عاماً هو استثمارٌ ضخمٌ له انعكاساتٌ اقتصاديّةٌ وسياسيّةٌ على سوريا والمنطقةِ.
وأهمُّ ما يُميّزُ هذا الاتفاقَ هو ما ستقدّمه شركةُ دبي من تطويرٍ لنظامِ التشغيلِ، الأمرُ الذي يتكاملُ مع موقعِ ميناءِ طرطوس ويخلقُ قفزةً حقيقيّةً في الاقتصادِ السوريِّ، خاصّةً أنّ مرفأَ طرطوس ثاني أهمِّ ميناءٍ في سوريا.
ويضيف ددم في حديثه لصحيفة الثورة، أن ربطُ ميناء طرطوس بشركةِ موانئ عالميّةٍ كشركةِ دبي، التي تُديرُ 72 محطةً بحريّةً في 65 دولةً حولَ العالم، يعني ربطاً استراتيجيّاً لميناءِ طرطوس بموانئ عالميّةٍ.
ومن خلالِ هذا الربطِ ستُبنى علاقاتٌ تجاريّةٌ مع خطوطِ شحنٍ كبيرةٍ، لذلك يجبُ أن يكونَ ميناءُ طرطوس منصّةً بحريّةً رقميّةً قادرةً على استيعابِ واستقبال كل أنواعِ البواخرِ والحاوياتِ، ومنافساً للأرصفةِ البحريّةِ النوعيّةِ، بالإضافةِ إلى ضرورةِ تحسينِ جودةِ الخدماتِ واتباعِ أنظمةٍ ذكيّةٍ لتحسينِ الملاحةِ السوريّةِ، ما ينعكسُ مباشرةً على الاقتصادِ السوريِّ.
ويشير رئيسُ فرعِ حلبَ لنقابةِ الاقتصاديّينَ، إلى أنَّ لهذا المشروعِ فوائدَ اقتصاديّةً هامّةً، خاصّةً أنَّ الاتفاقَ بين الحكومةِ السوريّةِ وشركةِ “موانئ دبي العالميّة” ينصُّ على أنَّ للدولةِ السوريّةِ 45 بالمئة من عائداتِ وأرباحِ المشروعِ، والذي سيوفّرُ فرصَ عملٍ بنسبةِ 90 بالمئة للعمالةِ السوريّةِ، بالإضافةِ إلى أنَّه سيجعلُ من سوريا مركزاً للربطِ التجاريِّ العالميِّ.
وعن الانعكاسِ السياسيِّ لاستثمارِ شركةِ “موانئ دبي العالميّة” في ميناءِ طرطوس، يقولُ الأستاذُ عبد الرحمن ددم: إنَّ “الشراكةَ السياسيّةَ مع الخليجِ تنعكسُ اليومَ اقتصادياً، وكما أصبحت العلاقاتُ السوريّةُ مع السعودية وقطر وثيقةً، كذلك هي اليومَ مع الإمارات، الدولةُ الخليجيّةُ التي تُعتبرُ اليومَ بدخولِها سوقَ الاستثماراتِ السوريّةِ شريكًا حقيقياً يربطُه مع سوريا علاقاتٌ وثيقةٌ مبنيّةٌ على الثقةِ، ما يجعلُ الاقتصادَ السوريَّ يخطو خطوةً كبرى في عتبةِ الانتعاشِ الاقتصاديِّ، خاصّةً مع نجاحِ الدبلوماسيّةِ السوريّةِ وتحقيقِها للإنجازاتِ السياسيّةِ برفعِ العقوباتِ عن سوريا، التي تُعتبرُ اليومَ مفتاحَ السلامِ ونقطةَ الربطِ التجاريِّ إقليميّاً بين تركيا والخليجِ وبين آسيا وأوروبا”.
وعليه، فإن ما تشهده سوريا من إقبالٍ وانفتاحٍ وعروضِ استثمارٍ يدلُّ على الثقةِ العالميّةِ بسوريا الجديدةِ، إذ إنَّ استثمارَ شركةِ دبي في ميناءِ طرطوس لا تقتصرُ أهميّتُه على الأبعادِ الاقتصاديّةِ والتقنيّةِ فقط، بل تمتدُّ أيضًا إلى الأبعادِ السياسيّةِ والإقليميّةِ، ويعكسُ ثقةَ الإماراتِ في البيئةِ السياسيّةِ والاقتصاديّةِ في سوريا بعدَ سنواتٍ من الحربِ، ويُعزّزُ حضورَها في سياقِ انفتاحِ الدولِ العربيّةِ والغربيّةِ على دمشقَ، ويُعزّزُ مكانتَها الإقليميّةَ.
فدخولُ موانئِ سوريا إلى عالمِ الرقمنةِ من شأنِه أن يرفعَ سويّةَ الاستثماراتِ في سوريا، التي تنتظرُ – على ما يبدو – أعواماً اقتصاديّةً ذهبيّةً.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الثورة
syriahomenews أخبار سورية الوطن
