آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » رسالة إلى فيروز في عام الدمع الصامت

رسالة إلى فيروز في عام الدمع الصامت

 

جوزف إبراهيم

 

 

يا فيروز،

نخجل هذا العام أن نقول لكِ: «كل سنة وأنتِ بخير»،

فنحن لسنا بخير، ولبنان ليس بخير، وقلبكِ أيضاً لم يعد كما كان.

إحدى وتسعون سنة مشيتِ فيها على حافة المعجزة.

 

من بيت صغير في زقاق البلاط إلى أن تصيري صورة بلدٍ كامل، وصوت ذاكرته، وذاكرة جراحه وأحلامه معاً.

هذه السنة تحديداً، تبدو التهنئة ناقصة، إن لم تمرّ أولاً من باب التعزية.

من بيتك في شويا، حيث الغياب صار أكبر من أن يُخفى بالصمت.

يا سيّدة الصوت، كيف نعايدك في سنة الفقد؟

 

هذا أوّل عيد يمرّ عليكِ واسم زياد غائب حاضر في آنٍ واحد.

غائب بالجسد، حاضر في كل نغمة كتبتِها بصوته، وفي كل آلة موسيقية حملت بصمته، وفي كل بيت لبناني يحفظ من مسرحيّاته جملاً صارت جزءاً من يوميّاته.

 

رحل زياد في تمّوز (يوليو) الماضي عن 69 عاماً، وكأن لبنان شيّع معه قطعة من عقله وروحه.

كيف نقول لكِ «عيداً سعيداً»، وصوتك الذي علّمنا معنى الصبر ما يزال يغطّيه صمتٌ أثقل من الكلام؟

نكتب إليكِ لأننا نحن أيضاً في عزاء.

 

عزاء بلدٍ يتّسع فيه الفقد: في البيوت التي تُهدم، في المدن التي تُهجّر، في الجنوب الذي لا يهدأ، في غزة المعلّقة على شاشاتنا، في بيروت التي تحاول كل صباح أن تتذكّر أنها عاصمة، لا مجرّد خبر عاجل جديد.

صوتكِ: حزن لا يستسلم وأمل لا يكذب

بعد كل هذه السنين، نكتشف أن أغانيك لم تكن يوماً رومانسية عابرة.

كانت تمارين على الحزن، وعلى الاحتمال.

في كل مرة تغنّين فيها عن شخصٍ ينتظر ولا يأتي، عن بيتٍ يتهدّم، عن قرية تُترَك خلف الحدود، كنتِ تدربيننا من حيث لا ندري على هذه السنوات الثقيلة.

 

حين قلتِ في ألبومك الأخير مع زياد «في أمل»، لم يكن ذلك شعاراً سياسياً أو تسلية موسيقية.

كان تشبّثاً أخيراً بحبلٍ رفيع فوق هوّة سحيقة.

واليوم، نسمعه كوصيّة مشتركة لكما.

هناك أمل، ولكن بثمنٍ باهظ، وبقلبٍ مكسور.

تغنّين الحزن كمن يعرفه، لكنك لا تمنحينه الانتصار.

 

تتركين دائماً شبّاكاً صغيراً للنور:

شارع فارغ في الصباح، حديقة صغيرة في بيوت الحرب، كرسي خشبي أمام البحر، أو جارة تسقي ياسمين السطح.

«وقّفي حدّنا بهالصوت»

هذه السنة، نشعر أننا نحن من يردّد خلفكِ:

«وقّفي حدّنا بهالصوت».

لا نطلب منكِ أغنية جديدة أو حفلةً كبيرةً.

 

نطلب فقط أن يبقى هذا النبع مفتوحاً.

نبع صوتكِ الذي خلط عبر السنين بين الصلاة والعتاب، بين الشجن والكبرياء، بين إنسانٍ بوجعه ووطنٍ يحاول أن يلمّ شتاته في كل مرة.

يا صوت الصباح،

نحتاج أن نصدق أن الفنّ لا يموت بموت أصحابه.

وأن بيروت التي احتضنت ضحكات زياد فوق مسارحها ما تزال قادرة، ولو من بعيد، أن تضحك وسط الخراب.

إلى ريما: خبرينا كيف حوالها؟

 

لو كان مسموحاً، لكتبنا سطراً واحداً موجّهاً إلى ريما:

«خبرينا كيف حوالها؟»

نعرف أن بيتكم لا يحبّ الاقتحام ولا الفضول ولا الكاميرات، وأن الخصوصية جزء من كرامة هذه الأسطورة التي اسمها فيروز.

لكننا، من بعيد، نطمئن إلى أمّنا بصوت بناتها.

هل تفتح الستارة كل صباح؟

هل تضع فنجان القهوة في المكان نفسه؟

هل تسمع تسجيلات زياد، أم تترك الباب مغلقاً على صمته؟

 

لا نريد صوراً ولا بيانات.

نريد فقط أن نصدّق أنها بخير بما يكفي لمواجهة هذا الفقد الجديد.

وأن عينيها ما زالتا قادرتين على النظر إلى الشباك، وإن بصمت أطول.

يا فيروز، لسنا مجرد جمهور.

لسنا «فانز» نكتب لنجمع إعجاباتٍ على مواقع التواصل.

نحن أجيال تربّت عليكِ.

 

جيل الراديو في المطبخ صباحاً، وجيل «يوتيوب» بعد الحرب، وجيل آخر يضع أغانيك لينام أطفاله.

أسماؤنا تختلف، طوائفنا تتباعد، أحزابنا تتبدّل، لكننا نلتقي دائماً في جملة واحدة:

«نسمع فيروز الصبح».

 

كنا نعتقد أن علاقتنا بكِ من طرف واحد؛ نحن نحبّك وأنتِ لا تعرفين أسماءنا.

لكن حين رحل زياد، عرفنا أكثر أنكِ لستِ رمزاً فقط، بل إنسانة يجلس الحزن قربها على كنبةٍ في غرفة مظلمة، وتسمع صدى ضحكته في الممرّ حين ينام البيت.

أيّ عيد هذا؟

 

أيّ عيد ميلاد هذا، ولبنان بالكاد يقف؟

الأيام التي غنيتِ لها صارت ظلّاً باهتاً، والمدينة التي غنيتِ لها «لبيروت» تتأرجح بين انفجار وهجرة، والجنوب الذي حملتِ وجعه يتلقى الضربات، والمنطقة كلها تحترق من فلسطين إلى آخر خبر عاجل.

ومع ذلك، نعود فنفتح «إيه في أمل»، ونستمع إليه كأننا نسمعه للمرة الأولى.

ربما لأن الأمل الذي تغنّين عنه لم يكن يوماً وردياً، بل ذلك النوع الصعب من الأمل:

الأمل الذي يمشي على عكّاز، الذي يعرج، الذي لا يَعِدُنا بشيء، لكنه يرفض أن يموت.

ما الذي نريد أن نقوله لكِ حقاً؟

 

ربما لا نريد أن نعايدك بالمعنى التقليدي.

لا نريد أن نقول لكِ: «عقبال المية»، فالمئة لم تعد تعني شيئاً في بلدٍ تُدفن فيه الأحلام قبل أصحابها.

ما نريده منك، يا جارة القمر، هو أن تبقي.

أن يكون وجودك نفسه فعل مقاومة ناعمة.

 

أن تواصلي حراسة ذاك الخيط الرفيع الذي يربطنا بصورة لبنان الذي حلمتِ به وغنّيتِ له، ولو لم يوجد يوماً كما يجب.

نريد فقط أن نطمئن إلى أنك تعرفين، في مكان ما،

أن كل بيت في لبنان وفي هذا الشرق يدين لكِ بلحظة عزاء واحدة على الأقل.

ركوة قهوة في صباح بارد، طريق سفر يهدأ بصوتك، طالب يدرس على أغنية قديمة، وأمّ تتهجّى السلام على أولادها المغتربين عبر «سنرجع يوماً».

 

تعزية تسبق المعايدة

يا سيّدة الصوت،

تعازينا أولاً في زياد، رفيق صوتك، وصاحب التجربة الأجرأ في تاريخ الموسيقى اللبنانية، وابنك الذي حمل ملامحكِ وعناده في آن واحد، ورحل تاركاً خلفه مسارح وشوارع وأشرطة كاسيت تحفظ ضحكته وسخريته وحنينه.

ثمّ بعد التعزية، تأتي المعايدة، خجولة وواقعية.

 

كل سنة وأنتِ بيننا، لا نطلب أكثر من ذلك.

كل سنة وأنتِ قادرة على فتح شباك واحد للنور.

كل سنة وأنتِ تتركين أغنية قديمة تتسلّل من جهاز صغير في حيّ بعيد، لتذكّرنا أن هذا العالم، ولو للحظة، كان أوسع من الخوف، وأرحب من نشرات الأخبار.

 

كل سنة وأنتِ، ببساطة:

فيروز.

إمضاء:

ملايين القلوب التي رافقها صوتكِ في الحزن،

وشربت معه جرعة أمل، حتى في عام اسمه: عام الدمع الصامت.

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١- الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

سعدون جابر يثير الجدل: نصيحتي لرحمة رياض العودة إلى الدراسة!

عاد برنامج “ذا فويس” في موسمه السادس ليشعل الساحة الفنية العربية مجددًا، مقدّمًا منصة تجمع بين الأصوات الشابة الطموحة ولجنة تحكيم موسيقية متنوعة، في تجربة ...