آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » حين يختبئ الإخوان خلف البندقية: القصة الحقيقية لحرب السودان

حين يختبئ الإخوان خلف البندقية: القصة الحقيقية لحرب السودان

 

عبد المنعم سليمان

 

 

 

 

 

في اللحظة التي يتوهّم فيها البعض أنّ الحرب في السودان مجرد نزاع بين جيش نظامي ومليشيا تمرّدت عليه، تتكشف لمن يقترب قليلاً من قلب المأساة حقيقة أبعد غوراً وأكثر تعقيداً. فالرواية التي يصدّرها غالبية الإعلام العربي – تقودها آلة الدعاية الإخوانية في المنطقة – ليست سوى قشرة رقيقة تخفي تحتها حقيقة الحرب وصراع رؤيتين متناقضتين لمستقبل البلاد: رؤيةٍ تنتمي إلى ماضٍ تسلّطيّ مثخن بالاستبداد، وأخرى تتطلع إلى فجرٍ مدني لم تكتمل ملامحه بعد.

 

منذ اندلاع الثورة السودانية في 2019، بدا واضحاً أن الشارع لا يطالب بتغيير الأشخاص، بل بتغيير معنى السلطة نفسها: الانتقال من دولة شمولية تُستمد شرعيتها من البندقية إلى دولة مدنية تُستمد شرعيتها من إرادة الشعب. غير أنّ الحركة الإسلامية السودانية (الإخوان)، التي حكمت البلاد بقبضة أمنية عبر الجيش بقيادة الرئيس المعزول عمر البشير على مدى ثلاثة عقود، لم تتصالح يومًا مع هذا التحول. بقيت في حالة استنفار دائم، تُعيد تنظيم صفوفها، وتتحيّن اللحظة لاسترجاع نفوذها القديم، ولو على جثث الأحلام التي رفعتها الثورة.

 

ولم تكن العلاقة بين الجيش وقوات الدعم السريع يوماً كما يُصوَّر في الخطاب الإعلامي السائد اليوم على أنها خصومة محتومة انتهت بالانفجار، بل كان الطرفان، لسنوات، ركنين أساسيين في منظومة حكم واحدة، يعملان بتناغم تام، ويتقاسمان النفوذ في مرحلة ما بعد الثورة. بل إنهما، حين انقلبا على الحكومة المدنية في أكتوبر 2021، فعلا ذلك كتوأمين سياسيين: أصدر أحدهما البيان، وسانده الآخر بالقوة.

 

وكان ذلك الانقلاب اللحظة المحورية التي لا يريد كثيرون الاعتراف بها: الشرارة الأولى للحرب. فحين أسقط الجنرالان المسار الديمقراطي، لم يكن ذلك خلافًا عابرًا مع شركائهما المدنيين، بل خطوة محسوبة لإعادة البلاد إلى قبضة مشروع الإسلام السياسي. لكنّ ما لم يكن في الحسبان أن التصدع سيبدأ من داخل هذا المعسكر نفسه، وأن لعبة الغدر المتبادل ستفتح الباب لصراع لم يعد ممكناً التحكم فيه.

 

لقد رأت الحركة الإسلامية في الجيش الذي روّضته لخدمة مشروعها خلال سنوات حكمها الطويلة، أداتها الوحيدة لاستعادة السلطة، واستخدمته لتحقيق ما عجزت عن بلوغه بالفعل السياسي.

 

 

 

أما الدعم السريع، الذي شارك في الانقلاب تحت ذرائع مختلفة، فقد اكتشف أنه كان يُقاد نحو مصير مرسوم مسبقاً: إقصاؤه بعد التخلص من القوى المدنية. وحين أدرك متأخراً حجم الفخ الذي دُفع إليه، بدأ الانشقاق يتسع، إلى أن انفجر في نيسان/ أبريل 2023 في صورة حرب شاملة.

 

لكن بدلًا من مواجهة هذه الحقيقة، اختار الإعلام المنحاز أن يشيّد جداراً من الضباب، يقدّم الحرب كمعركة دفاع عن الدولة ضد “مليشيا متمردة”، أو كصراع نفوذ إقليمي طمعًا في ذهب السودان. والحقيقة أن السودان – رغم موارده – ليس كنزًا يغري قوى إقليمية أو دولية بإشعال حرب تُكلّف أضعاف ما تجلبه من مكاسب واقعية.

 

غير أن هذه الروايات، مهما بدت هشة، تخدم غاية واضحة: صرف الأنظار عن المسؤول الحقيقي، أي مشروع الإسلام السياسي الذي لم يتقبل يومًا خسارته للسلطة، ويقف اليوم خلف كتائب داخل الجيش تحرّكت لإعادة عقارب الزمن إلى ما قبل الثورة.

 

إن الحرب في السودان ليست مواجهة طارئة بين جنرالين، بل آخر محاولات “الدولة القديمة” لدفن الحلم المدني. هي صراع بين مشروع يريد استعادة سلطة دينية/عسكرية حكمت البلاد بثنائية القمع والفساد، ومشروع مدني ديموقراطي يسعى إلى انتشال السودان من قبضة العسكرة وفتح نافذة نحو العالم الحديث.

 

والعالم، الذي يفيض اليوم بالبيانات الإنسانية، ينسى أنه ترك المدنيين السودانيين وحدهم في صباح الانقلاب المشؤوم، يواجهون سقوط حريتهم بلا أن تمتد يدٌ دولية واحدة لوقف الكارثة قبل أن تتدحرج إلى حرب.

 

إن إدراك الحقيقة ليس ترفاً سياسياً، بل بداية الطريق نحو الخلاص. فالسودان لن يجد سلاماً طالما ظلّت الحرب تُقرأ بعيون مضلّلة، وتُروى كحرب بين جيش و”مليشيا” متمرّدة عليه، بينما هي في جوهرها حرب بين من يريد إعادة السودان إلى ليلٍ طويل، ومن يفتح الطريق إلى نهار ديموقراطي طال انتظاره.

 

تلك هي المعركة الحقيقية: معركة على روح السودان، لا على جغرافيته. وعلى القرّاء، عبر هذه المساحة من هذا المنبر العريق، أن ينطلقوا معنا في هذا الفهم، لأن المعرفة الدقيقة هي أول لبنة في بناء موقفٍ عادل، ولأن الحقيقة – مهما اشتدّ عليها الحصار – لا بد أن تجد طريقها إلى الضوء.

 

أخبار سوريا الوطن١-النهار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

تفويض عالمي لتحقيق العدالة في فلسطين

د. طلال أبوغزاله لقد تحدثت جنوب أفريقيا وماليزيا بعبارات واضحة في الأمم المتحدة، ووجهتا رسالة لا يمكن تجاهلها. لقد انقضى زمن الصمت، وحان وقت التحرك ...