سعيد محمد
في خريف عام 2025، ومع اقتراب الذكرى الرابعة للحرب الأوكرانية، يجد الرئيس فولوديمير زيلينسكي نفسه أمام أخطر منعطف سياسي وعسكري له منذ شباط عام 2022، في ظلّ إعلانه استعداده للعمل مع الولايات المتحدة وفق «رؤيتها» لإنهاء الحرب. وجاء هذا الإعلان استجابةً لما بات يُطلق عليه في الأوساط الدبلوماسية، «خطّة ويتكوف – ديميترييف»، وهي وثيقة مُسرّبة تكشف عن ثمن باهظ سيتوجّب على كييف دفْعه مقابل «السلام»، في وقت يواجه فيه زيلينسكي عاصفةً من الأزمات الداخلية، على خلفية الفساد المستشري وتراجع الدعم الخارجي. والخطّة التي حملت اسم المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف، ونظيره الروسي كيريل ديميترييف، ليست مجرّد مقترح لوقف إطلاق النار، بل تبدو أقرب إلى إعادة هيكلة جيوسياسية للمنطقة تستند إلى مبدأ «الواقعية القاسية»، وتميل كفّتها بشكل صريح لمصلحة موسكو (وواشنطن)، وفقاً للقراءات الأولية للمسوّدة المُسرّبة.
وبحسب صحف لندن، فإن الخطّة تضفي شرعية الأمر الواقع على السيطرة الروسية على الأرض؛ إذ سيتوجّب على كييف التنازل عن مناطق واسعة من إقليم دونباس شرق البلاد – وهي مناطق لا تزال القوات الأوكرانية تسيطر على أجزاء منها -، ما يضرب في الصميم العقيدة القتالية الأوكرانية التي قامت على مبدأ استعادة كامل التراب الوطني، بما في ذلك شبه جزيرة القرم. وتنص الخطّة أيضاً على تحديد سقف للقوات المسلحة الأوكرانية بـ600,000 جندي فقط، وتطالب أيضاً بتخلّي أوكرانيا عن العديد من أسلحتها الثقيلة، في مقابل نشر طائرات مقاتلة أوروبية في بولندا المجاورة (وليس في أوكرانيا)، ما يجعل الأجواء الأوكرانية تحت حماية «عن بعد». أمّا الضربة الأقسى لطموح كييف، فتتمثّل في التعهّد بعدم الانضمام إلى «حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، في مقابل «ضمانات أمنية» غامضة، وتعهُّد بـ»ألّا تغزو روسيا جيرانها»، وهو تعهّد يبدو هشّاً، أقلّه في نظر الأوكرانيين.
من جهتها، ستحصل موسكو على جائزة كبرى إلى جانب قبول سيادتها على دونيتسك ولوغانسك والقرم، وذلك بإعادة دمجها في الاقتصاد العالمي، ورفع العقوبات عنها، وقبولها ضمن مجموعة السبع (لتصبح مجموعة الثماني G8 مجدّداً)، ما يعكس بوضوح أولويات رأس المال العالمي الذي يسعى إلى إنهاء الاضطراب في أسواق الطاقة والتجارة، بعد تأزّم غير مسبوق منذ عقود.
وعلى الرغم من كون الخطة مُجحِفة من وجهة نظر أوكرانيا، فإن قبول زيلينسكي الضمني بها، أو على الأقلّ عدم رفضه العلني لها، ليس مُستغرَباً. فالرجل يمرّ بأسوأ ظرف سياسي منذ تولّيه السلطة، وتعصف بإدارته فضيحة فساد مدوّية بقيمة 100 مليون دولار طاولت مسؤولين كباراً في دائرته الضيّقة، وهي فضيحة لم تُضعِف ثقة الشارع الأوكراني به فحسب، بل أعطت مبرّراً مثاليّاً للمشكّكين في الغرب لتقليص المساعدات أو توجيهها بشروط قاسية.
أمّا عسكرياً، فلا تبدو الصورة أقلّ قتامة؛ إذ يواصل الجيش الروسي تحقيق مكاسب إقليمية صغيرة، ولكن متراكمة، شرق أوكرانيا، مستنزفاً الموارد البشرية للأخيرة. وبينما كانت خرائط التسوية المنشودة تُرسم في الكواليس، دكّت الصواريخ الروسية مبانيَ سكنية في تيرنوبيل (غرب أوكرانيا)، مخلّفة 26 قتيلاً وعشرات المفقودين، كما قُصفت زابوروجيا وسقط فيها خمسة قتلى آخرين.
وكان تغيّر المشهد في واشنطن جذريّاً مع بدء ولاية الرئيس دونالد ترامب الثانية، ورحيل الإدارة الديمقراطية؛ إذ حوّل الرئيس الحالي عبء تمويل الحرب إلى الحلفاء الأوروبيين، ما جعل من التوصّل إلى «صفقة تسوية» أولوية قصوى. وفي ظلّ تجميد التمويل الأميركي المباشر والاعتماد على التمويل الأوروبي المهتزّ، لم يَعُد لزيلينسكي ظهر يستند إليه لمقاومة الإملاءات الأميركية. وفي خطاب ليلي وجّهه إلى الأوكرانيين، حاول حفظ ماء الوجه، واصفاً الخطّة بأنها «رؤية» الأميركيين التي يمكن أن «تُنعِش الدبلوماسية»، مشدّداً على ضرورة التوصّل إلى «سلام حقيقي».
سيجد زيلينسكي نفسه مضطراً إلى تجرّع الكأس المُرّة، حيث القبول بالخطّة يعني التنازل عن الأرض والسيادة العسكرية
وكما أصبح معروفاً، فإن أوروبا، التي تحمّل العبء الأكبر من التمويل العسكري والاقتصادي لنظام كييف، ويُتوقّع منها إرسال قوات حفظ سلام، كانت خارج صياغة خطّة التسوية الأحدث. وعبّر كل من وزير الخارجية الألماني يوهان فادفول، ومسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس، عن انزعاجهما من هذا التهميش؛ إذ قالت كالاس، لدى سؤالها عمّا إذا كانت أوروبا شاركت في صياغة الخطّة: «ليس على حدّ علمي»، مضيفة بحسرة أن أيّ تسوية لكي تنجح، تحتاج إلى الأوروبيين بالضرورة.
وفي بيان مشترك بعد المكالمة التي جمعت زيلينسكي إلى قادة فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، أصرّ القادة الأوروبيون على أن الخطّ الأمامي الحالي بين الأراضي الأوكرانية والأراضي التي تسيطر عليها روسيا، يجب أن يكون «نقطة انطلاق لأيّ تفاهم»، وأن القوات المسلحة الأوكرانية «يجب أن تبقى قادرة على الدفاع بفعّالية عن سيادة أوكرانيا». وإذ رحّب البيان بـ»الجهود الأميركية لإنهاء الحرب في أوكرانيا»، لكنه وعد أيضاً «بمواصلة السعي إلى تحقيق هدف حماية المصالح الأوروبية والأوكرانية الحيوية على المدى الطويل». وبعد المكالمة، نُقل عن زيلينسكي، قوله إن العمل مستمرّ «على الوثيقة التي أعدّها الجانب الأميركي»، في حين من المُقرّر أن يلتقي القادة على هامش قمّة «مجموعة العشرين» في جوهانسبرغ.
على المقلب الروسي، وعلى الرغم من أن الخطّة تبدو مؤاتية تماماً لموسكو، إلّا أن الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، قلّل من شأنها، واصفاً إيّاها بأنها ليست «مداولات رسمية»، ومكرّراً المطالبة بمعالجة «الأسباب الجذرية» للصراع. لكنّ خبراء يرون أن الهدف من ذلك، رفع سقف التفاوض إلى أقصى حدّ، بما يتيح انتزاع المزيد من التنازلات، وإظهار روسيا غير لاهثة وراء السلام، بل قادرة على فرضه.
من جهته، يمارس ترامب ضغوطاً مزدوجة على موسكو؛ فبعد خروجه خالي الوفاض من قمّة ألاسكا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في آب الماضي، وسعياً منه إلى تكريس صورته كمفاوض عتيد، فرض عقوبات جديدة على منتجي النفط الروس (دخلت حيّز التنفيذ أمس). وتمثّل هذه العقوبات، وفق مراقبين، «عصا» يلوّح بها لموسكو، بينما تمثّل خطّة ويتكوف «الجزرة». أما بالنسبة إلى أوكرانيا، فقد حاولت الناطقة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، تجميل الصورة قليلاً، نافية أن تكون كييف قد استُبعدت من صياغة خطّة «ويتكوف – ديميترييف»، مشيرة إلى أن وزير الدفاع الأوكراني، رستم عمروف، وافق على «غالبية النقاط « بعد تعديلات. لكنّ تصريحات نواب أوكرانيين إلى «بي بي سي» البريطانية، أكّدت أن كييف وُضعت أمام الأمر الواقع، ولم تكن في أيّ شكل شريكاً في صياغة الخطّة.
وعلى أي حال، ستكشف الأيام القليلة المقبلة، والمكالمة المُرتقبة بين زيلينسكي وترامب، عمّا إذا كانت خطّة ويتكوف – ديميترييف ستُفرض كأمر واقع، لتنهي الحرب بسلام بارد، أم أنها ستكون مجرّد استراحة محارب قبل جولة جديدة أكثر دموية من الصراع. وعلى الأرجح، سيجد زيلينسكي نفسه مضطراً إلى تجرّع الكأس المُرّة، حيث القبول بالخطّة يعني التنازل عن الأرض والسيادة العسكرية مقابل وعود بـ»الازدهار» والاندماج الغربي المنقوص، ورفضها يعني المغامرة بوجود الدولة الأوكرانية نفسها.
أخبار سوريا الوطن١- الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
