كما توقعت في هذه الزاوية سابقًا، فإن الزيارة التي اختتمها مؤخرًا صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، إلى واشنطن لم تُعد فقط ضبط إيقاع العلاقة السعودية-الأميركية، بل أعادت تعريفها بالكامل. وبعد مرور 80 عامًا بالتمام على اللقاء التاريخي بين الرئيس فرانكلين روزفلت والملك عبدالعزيز على متن البارجة “يو إس إس كوينسي”، ها هما الدولتان ترسمان مجددًا مسارًا جريئًا نحو المستقبل.
ما شهدته العاصمة الأميركية لم يكن مجرد عرض ديبلوماسي مبهر، رغم أن تحليق طائرات F-35 فوق البيت الأبيض لتحية ولي العهد شكّل مشهدًا رمزيًا قويًا. بل كان ذلك بمثابة تدشين رسمي لعصر جديد، يقوم على الاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة، وفهم واقعي لمتغيرات المنطقة.
في صميم هذا التحول تكمن قناعة مبكرة لدى الرئيس دونالد ترامب – ومتأخرة بعض الشيء لدى سلفه جو بايدن – بأن الشرق الأوسط، بمساعدة السعودية، لم يعد مجرد بؤرة صراعات، بل بات أرضًا للفرص والابتكار والطموح. والمحرك الرئيسي لهذا التغيير ليس سوى الرجل الذي وصفه ترامب مرارًا بـ”الصديق العظيم” و”الملك المستقبلي للمملكة العربية السعودية”.
فما الذي تغيّر؟ كما يُقال إن “عندما تعطس أميركا، يُصاب العالم بالزكام”، أدركت واشنطن أن “عندما تقود السعودية، يتبعها العالمان العربي والإسلامي”. فرؤية 2030 بطبيعتها برنامج منفتح على العالم، يعتمد على الشراكات الدولية – لا سيما مع الولايات المتحدة – لتوفير السلع والخدمات ونقل المعرفة اللازمة لحماية الحدود، واستخراج المعادن الحيوية، وبناء مدن المستقبل.
لهذا السبب، لم يُعِر أحد اهتمامًا كبيرًا لأولئك المتشائمين الذين زعموا أن تريليون دولار من الاستثمارات التي أُعلنت خلال الزيارة ما هي إلا محاولة سعودية لشراء النفوذ في واشنطن. فهذه المبالغ – سواء تحققت بالكامل أو جزئيًا أو حتى تجاوزتها الصفقات – ليست هدية لإدارة ترامب، وما ستشتريه بالفعل هو طائرات F-35 ودبابات وتقنيات الذكاء الاصطناعي، والاستفادة من الخبرات الأميركية في الطاقة النووية والتعدين وغيرها من القطاعات، شريطة أن توافق واشنطن على البيع وتفي بالتزاماتها.
من الجانب الأميركي، لدينا رئيس ليس لديه ما يخسره ويسعى لتحقيق مكاسب تاريخية. ترامب، رجل الأعمال وصانع الصفقات، يدرك أن الفرصة التي تمثلها السعودية لا تتكرر، ولا يريد أن تفوّت الشركات الأميركية هذه الفرصة كما حدث في الماضي. فهو يعلم أنه إن لم تتحرك بلاده، فإن الرياض ستلجأ إلى موردين آخرين.
لكن رؤية 2030 لا تتعلق بالسعودية وحدها، بل تتجاوز ذلك إلى أبعاد إقليمية واقتصادية. فلكي تستقطب المملكة الاستثمارات الأجنبية والسياح لحضور إكسبو 2030 وكأس العالم 2034، لا بد أن تكون المنطقة آمنة ومستقرة ومزدهرة. وهذا الازدهار سينعكس حتمًا على الجيران، محدثًا تأثيرًا إيجابيًا متسلسلًا من التنمية والسلام.
أما ترامب، فيبدو واضحًا أنه يسعى لترك إرث كصانع سلام. فبعد أن بنى علاقة ثقة واحترام متبادل مع القيادة السعودية خلال ولايته الأولى، بات اليوم أكثر اقتناعًا بصدق نوايا الرياض وقدرتها على تحقيق مكاسب متبادلة.
وقد تجلى ذلك في جهود الوساطة السعودية بين روسيا وأوكرانيا، ومساعيها لرفع العقوبات عن سوريا بعد انهيار نظام الأسد، ودفعها لإنهاء المعاناة في السودان. هذه المبادرات لا تخدم مصالح الرياض فحسب، بل تصب أيضًا في مصلحة واشنطن. والمملكة مستعدة لدعم أي جهد يقرّب المنطقة من السلام والازدهار.
وفي هذا السياق، كان لافتًا أن نسمع ترامب، جالسًا إلى جانب ولي العهد في البيت الأبيض، يعبّر عن استعداده للحوار مع إيران، ومعلنا عن تدخله في السودان. ويكشف عقب الزيارة عن نيته لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع، ودعوته للرئيس اللبناني ميشال عون إلى زيارة البيت الأبيض. هذه ليست مجرد مجاملات دبلوماسية، بل إشارات إلى استراتيجية أوسع تهدف إلى استقرار المنطقة عبر الحوار والانفتاح.
وماذا عن إسرائيل؟ مرة أخرى، أوضح ولي العهد أن السعودية لا تمانع الانضمام إلى اتفاقيات أبراهام، بشرط أن تقوم إسرائيل بدورها وتعترف بدولة فلسطينية وتصحح خطأً تاريخيًا. هذا الموقف ليس جديدًا، لكنه يكتسب أهمية متزايدة في ظل الأحداث الأخيرة والمواقف المتشددة للحكومة الإسرائيلية الحالية.
هل كل هذا مجرد نظري؟ ربما. لكن لا سبيل لمعرفة ذلك سوى بالتجربة. فلنتخيل أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التزم بخارطة طريق لا رجعة فيها، ومحددة بخمس سنوات، نحو دولة فلسطينية قابلة للحياة، مع ضمانة أمريكية من الرئيس ترامب. كيف سيكون رد الفعل العالمي؟ لا أرى سوى ترحيب واسع بهذه المبادرة. لكن هل سيجرؤ على اتخاذ هذه الخطوة، في ظل تحالفه مع اليمين المتطرف؟ أشك في ذلك. ومع ذلك، عليه أن يدرك أن استمرار استفزاز الفلسطينيين وجيرانه العرب لن يؤدي إلا إلى تقويض فرص المنطقة في أن تعيش “نهاية سعيدة”.
هل هذا حلم وردي؟ ربما. لكن نتنياهو أمام خيار مصيري: إما أن يختار السلام والاندماج الكامل لمواطنيه وأجيالهم القادمة في المنطقة، أو أن يبقيهم أسرى دوامة صراع لا تنتهي. والخيار، في نهاية المطاف، بيده.
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
