د. سلمان ريا
يشكّل قرار تحويل هيئة المنافذ البرية والبحرية في سوريا إلى وزارة مستقلة تحولًا بنيويًا يتجاوز الطابع الإداري التقليدي، ليمسّ مباشرة هندسة القرار الاقتصادي وآليات إدارة الحركة التجارية عبر الحدود. فالانتقال من هيئة فنية ذات وظائف تشغيلية محددة إلى وزارة تمتلك صلاحيات تشريعية وتنفيذية واسعة لا يُقاس بحجمه المؤسسي فحسب، بل بقدرته على تحسين الكفاءة التشغيلية، وخفض كلفة التجارة، وتوحيد خطاب الدولة أمام القطاع الخاص والشركاء الدوليين. وعلى هذا المستوى بالذات، يبدو أن القرار يحمل إمكانات مهمة، لكنه في الوقت نفسه يفتح الباب أمام مخاطر مؤسسية تستوجب تقييمًا دقيقًا قبل الحكم على جدواه.
من منظور الاقتصاد المؤسسي، لا يؤدّي رفع مستوى أي جهاز حكومي تلقائيًا إلى تحسين أدائه. فالوزارات—بطبيعتها—هياكل سياسية–بيروقراطية واسعة، تخضع لإجراءات معقدة ودورات اعتماد طويلة، بينما تعمل الهيئات الفنية عادةً بمرونة أعلى وقدرة أسرع على التكيف مع المتغيرات التشغيلية. لذلك فإن ترقية هيئة المنافذ إلى وزارة قد يؤدي، من دون إصلاحات موازية، إلى اتساع الفجوة بين متطلبات العمل الحدودي اليومية وتعقيدات الجهاز الوزاري.
ويتعمّق هذا التحدي بالنظر إلى العلاقة التاريخية بين وزارة الاقتصاد والملفات التجارية والجمركية. فقد مثّلت وزارة الاقتصاد تقليديًا مركز الثقل في رسم السياسات التجارية وإدارة التجارة الخارجية وتوازنات الحماية الصناعية. ومع دخول وزارة جديدة إلى هذا الحيّز، يصبح خطر الازدواج الوظيفي قائمًا ما لم تُحدد بدقة خطوط التماس بين الجهتين. فالتداخل في المهام لا ينعكس فقط في السياسات العليا، بل يتسلل إلى التفاصيل الدقيقة لحركة البضائع، وزمن الامتثال التنظيمي، وتكاليف التخليص الجمركي، ما يزيد من عدم اليقين في بيئة الاستثمار التي تعاني أصلًا من هشاشة وتشظي.
وتؤكّد الأدبيات الدولية الخاصة بإدارة الحدود المتكاملة (Integrated Border Management) أن تحسين كفاءة المنافذ لا يتم عبر توسيع الهياكل الهرمية، بل عبر تطوير قدرات إدارة المخاطر، والربط الإلكتروني بين الجهات المعنية، وتوحيد المرجعيات الفنية، واعتماد “النافذة الواحدة” للتجارة الخارجية. وهي أدوات ثبت عالميًا أنها تقلّص التكلفة اللوجستية، وتزيد الشفافية، وتعزز تنافسية الاقتصاد. أما إنشاء وزارة جديدة دون إدماج هذه المقاربات الحديثة، فقد يعني ببساطة إعادة إنتاج البنية القديمة بأسماء جديدة.
وفي قلب هذه المنظومة تبقى الإدارة الجمركية—بمعناها المهني، لا البيروقراطي—الركن الأكثر قدرة على ضبط التدفقات التجارية، وحماية الصناعة من الإغراق، وتنظيم الروزنامة الزراعية وصناعاتها التحويلية، وضمان الالتزام بالاتفاقات التجارية. ولا يمكن لوزارة جديدة أداء هذه الوظائف ما لم تستند إلى قدرات جمركية متطورة، ومنظومات بيانات دقيقة، وأدوات تحليل مخاطر واضحة. فالقيمة الاقتصادية لأي جهاز حدودي تُقاس بكفاءته التشغيلية قبل مرتبة تصنيفه الإدارية.
ولا يمكن فصل هذا القرار عن طبيعة المرحلة الاقتصادية الراهنة التي تتسم بارتفاع تكلفة التمويل، وتذبذب التشريعات، وازدواجية المرجعيات، وطول دورة الإنتاج. وبالتالي فإن أي تعديل في الهيكل الإداري يجب النظر إليه وفق سؤال جوهري: هل يقلّص عدد نقاط الاحتكاك بين المتعاملين والدولة؟ هل يخفض زمن التخليص؟ هل يجعل البيئة التنظيمية أكثر قابلية للتنبؤ؟ أم يضيف طبقة جديدة من التعقيد؟
من دون إجابة مؤسسية واضحة، سيظل القرار محاطًا بتساؤلات مشروعة، في وقت لم يعد الاقتصاد السوري يحتمل رفاهية التجريب الإداري، بل يحتاج إلى أقصى درجات الانسجام واستقرار السياسات.
ورغم ذلك، لا يُستبعد أن يشكل هذا التحول نقطة انعطاف إيجابية إذا طُبق ضمن رؤية متماسكة ترتكز على مبادئ التخصص الوظيفي، وتعيد ضبط العلاقة بين وزارة الاقتصاد والوزارة الجديدة، وتُقرّ بروتوكولات تنسيق دقيقة، وتُسرّع اعتماد منظومات إدارة المخاطر والحوكمة الرشيقة. فبهذه المقاربات—ومع التطور الرقمي والبنية التقنية المناسبة—يمكن للمنافذ السورية أن تتحول من عقدة في سلاسل الإمداد إلى عنصر قوة يعيد تنشيط التجارة والصناعة والاستثمار.
إن القيمة الحقيقية لأي إصلاح مؤسسي لا تكمن في تغيير الاسم أو رفع الرتبة الإدارية، بل في تحسين الوظيفة ورفع كفاءتها. وإذا أرادت سوريا استعادة مكانتها في شبكات التجارة الإقليمية، فإن الأولوية ليست في تعدد الوزارات، بل في بناء جهاز حدودي حديث، موحد الرؤية، قادر على تقليص الزمن والتكلفة، وإعادة الثقة بمسار التحول الاقتصادي الذي طال تعثره لسنوات بسبب ضبابية القرار وضعف الحوكمة.

(اخبار سوريا الوطن-1)
syriahomenews أخبار سورية الوطن
