غسان القيم
من بين آلاف الرُقم الفخارية التي كشفتها أوغاريت تبرز كلمات تحملُ دهشة العصور الأولى: دعوةٌ صريحة لإيقاف الحروب وإرساء لغة السلام وتنمية الحياة لا محوها. في أسطورة بعل وعناة يقف الإله بعل على قمّة جبل صفون مخاطبًا أخته محاربته الشرسة ليقول لها ما يُشبه اليوم خطابًا أمميًا عابرًا للزمن.
هذا النص الفخاري ليس مجرد أسطورة بل وثيقة إنسانية مبكرة تُذكّر بأن حضارات الشرق القديم لم تكن حضارات حرب فقط بل حضارات أرادة
الحياة والخصب والغلال والعدالة وحق الشعوب في أن تعيش دون خوف.
في هذه الإسطورة يقف بعل في أعلى مقامه: جبل صفون الجبل الذي كان رمزًا للسيادة والسلطة والتوازن الكوني. وهناك ينادي:
“تعالي إليّ على قمة جبل صفون لدي كلمة سأقولها لك على جبلي المقدس.”
هذه الكلمات أشبه بدعوة إلى العودة إلى الجوهر: أن تتوقف الآلهة رموز القوى عن جعل الأرض ساحةً للدم وأن يتحول جبل السلطة إلى جبلٍ للحكمة.
مضمون وجوهر هذه الأسطورة عندما يقول بعل لعناة:
أنا أرفض الحروب في الأرض!…
اجعلي في الأرض الكثير من المحبة
وازرعي السلام بين الحقول،
أعيدي عصاكِ وأسلحتكِ…
بهذه الدعوة يظهر لنا أن مدينة أوغاريت منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد – طرحت سؤالاً ما يزال العالم عاجزًا عن الإجابة عنه:
لماذا الحروب إذا كانت الأرض تتّسع للجميع؟..
كلمات بعل ليست وعظًا أسطوريًا بل مشروعًا مجتمعيًا يقوم على:
1. نبذ العنف بكل أشكاله
2. إحلال لغة الحوار بدل الصراع
3. تثبيت قيم الأخوّة البشرية بين الشعوب
4. إعطاء الأولوية للزراعة والخصب والإعمار
5. إعادة توجيه القوة نحو البناء لا الهدم
حين تُستبدل عصا الحرب ببذرة الحياة
عناة التي عُرفت في النصوص الأوغاريتية بحدّتها وقوتها وسطوتها تمثّل الجانب المقاتل في النفس الإنسانية. لكن الأسطورة تُظهر أنها ليست مجرد ربة حرب بل قادرة على التغيير على أن تتحول إلى حارسة للحياة.
وفي قبولها نداء أخيها بعل يتجلى درسٌ عميق:
” حتى أقوى النزاعات يمكن أن تتبدّل حين تُستدعى إلى معنى أعمق: معنى الوجود ذاته..”
إن قراءة هذه الأسطورة اليوم ليست عودة إلى الماضي فقط بل استعادة لبذرة ثقافية تقول:
إن قيم العيش الكريم ليست مفهومًا حديثًا.
وإن التسامح والسلام لم يكونا غرباء عن عقل هذه الأرض المباركة منذ أقدم العصور
وإن الإنسان مهما تغيّر يحمل في داخله ذات القلق القديم: كيف يصنع أرضًا صالحة للحياة؟..
ماتُظهره هذه الأسطورة أن المجتمع الأوغاريتي لم يكن مجتمع حرب بل كان مجتمع يملك
نظام قانوني متطور وعلاقات تجارية واسعة
إضافة إلى تفاعل ثقافي مع الشعوب المجاورة..يؤمن بثقافة العيش المشترك والانفتاح على الآخر..
وإيمان عميق بالدورة الزراعية والخصب والنماء وعي بأن بقاء الإنسان مرهون بسلام الأرض لا بصراعاتها
يمكن لرسالة بعل أن تصبح اليوم جزءًا من ثقافة تربوية وإنسانية جديدة تقوم على:
نشر ثقافة الأمل بدل ثقافة الخوف
كما قال بعل لعناة في فحوى الأسطورة:
“ازرعي المحبة في الأرض”
فإن زرع الأمل اليوم يبدأ من التربية من الفن من الخطاب العام.
جعل السلام خيارًا ثقافيًا لا سياسيًا فحسب
الحروب ليست قَدَرًا بل قرارًا.. كما لم تكن قدرًا في أوغاريت قبل أربعة آلاف عام .
أوغاريت هذه المدينة العظيمة قامت ونهضت وازدهرت بفضل تعاونها مع العالم لا انعزالها عنه.
فكل انتصار لا يُثمر خبزًا.. ولا يترك في الأرض ماءً هو هزيمة مهما بدا عظيمًا.
إن رسالة بعل لعناة ليست فقط أقدم نداء سلام مكتوب على الطين ..بل هي همسٌ من زمن بعيد يذكّر العالم الحديث بأن:
الحياة أكبر من الحرب
والمحبة أقوى من السيوف
والسلام هو الطريق الوحيد الذي يليق بالإنسان.
وما تزال الكلمات تتردد على جبل صفون اليوم كما كانت قبل آلاف السنين:
“تعالي إليّ إلى جبلي المقدس… لدي كلمة للسلام.”
سرد تاريخي
“””””””””””””””””
عاشق اوغاريت.. غسان القيم..
الصورة المرفقة هي اللوح الفخاري المكتشف في مدينة اوغاريت الأثرية في ثلاثينيات القرن الماضي تتضمن ترجمته أسطورة بعل وعناة .. التي اعتبرت اقدم رسالة للسلام في العالم منذ ثلاثة آلاف وخمسمائة عام غبرت..
(أخبار سوريا الوطن1-صفحة الكاتب)
syriahomenews أخبار سورية الوطن
