آخر الأخبار
الرئيسية » إقتصاد و صناعة » الوجهة الاقتصادية لسوريا: استحالة الترسمُل بلا قيود

الوجهة الاقتصادية لسوريا: استحالة الترسمُل بلا قيود

 

ورد كاسوحة

 

مع توجُّه النظام في سوريا إلى رفع الدعم عن الخدمات الأساسيّة (وهي لا تقتصر على الكهرباء فقط)، تكون ملامح الهويّة الاقتصادية له قد اكتمَلت. في الأشهر التي تَلَت سقوط النظام السابق، لم تكن الانعطافة قد استُكملت بعد، إذ كانت ملامح التحرير الاقتصادي مُقتصِرةً على السياسة النقدية ذات الطابع الانكماشي، لجهة حَبْس السيولة، والاقتصاد في طباعة العملة، وتصغير حجم العاملين في القطاعين العامّ والمشترك، وصولاً إلى جعل الطلب على العملة الأجنبية والسلع والخدمات في حدوده الدنيا، لإبقاء سعر الصرف ممسوكاً، حتى وهو يخضع نظرياً لمنطق العرض والطلب. كلُّ ذلك كان يحصل في الحقل النقدي، وبما يجعل الأرض ممهَّدة لسقوط ثَمَرة المرافق الخدمية التابعة للدولة، والتي يتمّ عبرها تقديم الخدمات للناس بأسعارٍ مدعومة، في يد سَدَنة الاقتصاد الحرّ، سواءً كان الموجودون داخل البلاد أو في بعثات البنك وصندوق النقد الدوليين.

 

جذور الاستعصاء الاقتصادي الاجتماعي

نَقلُ وجهة الاقتصاد السوري من ضفّة إلى أخرى، كان دائماً بمنزلة عامل تفجير للبنية الاقتصادية الاجتماعية للبلاد، حتى في ذروة مرحلة الاستقرار السياسي المصحوب بتمثيل ديموقراطي نسبي ومحدود. السنوات الفاصلة بين انتهاء آخر انقلاب عسكري في عام 1954 بقيادة أديب الشيشكلي وحصول الوحدة مع مصر، كانت زاخِرة بالحراك الاقتصادي الاجتماعي المناهِض للسياسات المحابية لتحرير الاقتصاد والتجارة والخدمات، إلى درجة يمكن معها اعتبار هذه التحرُّكات بمنزلة عامل مساعِد، إلى جانب عوامل أخرى سياسية وعسكرية وأمنية، في التسريع بقيام الوحدة.

 

النموذج الذي قدّمته مصر منذ عام 1952مع عبد الناصر، كان ملهِماً للساسة السوريين على اختلاف انتماءاتهم. ليس لأنه خالٍ من الانقسامات السياسية التي كانت تعصف بتجربتهم الديموقراطية الوليدة فقط، بل كذلك لأنّ المضمون الاشتراكي الذي ينطوي عليه كان يقدِّم حلاً للاستعصاءات الطبقية السورية التي كانت تعقِّد عمَل أيّ نظام تمثيلي، وتضع له، سلفاً، حدوداً لا يستطيع تجاوزها بغير تقديم تنازلات للشرائح الاجتماعية المفقَرة، التي شكّلَت، ولا تزال، أكثرية السوريين.

 

حَصَل ذلك قبل الوحدة بسنوات مع حكومات خالد العظم، التي مثّلت استثناءً في التجربة الحكومية الليبرالية السورية، لجهة الحساسية التي أبدَتها لقضايا مثل المُلكية ودعم الفلاحين والعمّال وتقديم تسهيلات للفئات الضعيفة الأخرى في المجتمع، من دون أن تكون قادرةً على حلّ هذه المشكلات تماماً، كونها لم تكن تعبيراً عن توجّه اشتراكي جذري بقدر ما كانت محاولةً لتفادي الذهاب تماماً نحو الاشتراكية. وهو ما جعلها تتعثّر أخيراً في مهمّتها، على أهميّة ما قدّمته في الإطار الذي تقدر عليه، لمصلحة الوحدة أولاً في عام 1958، ثمّ لمصلحة «البعث» في عام 1963.

 

هذه البنية التي احتاجت إلى الاشتراكية حينها، لم تتغيّر بالقدر الذي يتيح حصول رسملة فيها بالطريقة التعسّفية والعشوائية المطروحة اليوم

 

رمزية الإبقاء على هياكل الدعم الأساسية

قبل اندلاع الاحتجاجات في عام 2011، كانت الهياكل الاشتراكية التي أُرسيت، مع حكمي الوحدة و«البعث»، قد بدأت بالتهالُك والتآكُل، ليس بسبب تقادُم النموذج الاشتراكي في سوريا بحدّ ذاته، بل لأنّ «الإصلاحات الاقتصادية» التي أتى بها بشار الأسد، ابتداءً من عام 2000، كانت تحمل في طيّاتها بذور إفناء النموذج. كلّ النصائح التي قُدِّمت له، من جانب خبراء كبار على رأسهم الراحل عصام الزعيم، تمّ تجاهلها لمصلحة الوجهة النيوليبرالية التي كان يقودها الفريق الاقتصادي المحيط به، والذي كان يعتقد أنّ القاطرة الفعلية لتسريع وتيرة التنمية إنما تمرّ بنقل الخصخصة والتحرير الاقتصادي من الإدارة إلى المُلكية.

 

على أنّ الوتيرة التي حصَلَ بها الأمر لم تكن بالسرعة التي نشهدها حالياً، وهو ما يفسِّر بقاء جلّ أصول الدولة السيادية ومرافِقها بيد القطاع العامّ، بالإضافة إلى استمرار الغطاء الذي يمثّله الدعم المقدَّم للسلع الأساسية والخدمات، والذي بَدَأَ التراجع عنه تدريجياً، من غير أن يصل بدورِه إلى مستوى المساس تماماً بسقوف الدعم جميعها تقريباً، من السلع الأساسية إلى المشتقّات النفطية، وصولاً إلى الكهرباء.

 

التحرير التدريجي، بهذا المعنى، يبقي على حدٍّ أدنى، ليس من الدعم فقط، بل أيضاً من قدرة الدولة على التحكّم بأصولِها وموارِدها، بدَلَ تركِها تتبدّد تماماً، على شكل استحواذٍ ونقلٍ للمُلكية من جانب القطاع الخاصّ المحلّي والإقليمي والدولي. والحال أنّ ذلك هو ما حافَظَ على الهياكل الأساسية للاقتصاد السوري طوال مدة الحرب، ولا سيّما لجهة الإمساك دولتياً بالأصول الصناعية والتجارية والخدمية، وإبقاء الدعم على السلع والخدمات الأساسية التي تمسّ بحاجات الأكثرية المطلَقة من السوريين الباقين في الداخل.

 

خاتمة

الاعتراض الواضِح الذي تعبّر عنه شريحة كُبرى من السوريين حالياً، بأشكالٍ مختلفة، هو نتاج هذه الانعطافة المفاجِئة التي لا تجد في التاريخ السوري المعاصِر ما يبرّرها، أو يعادِلها، حتى حين كان الاقتصاد هنا غير اشتراكيّ، أو حرّاً بالمعنى الذي يجري تداوله حالياً، وذلك في الحقبة التي سبقت حكم الوحدة في عام 1958. تركيبة البلاد الاجتماعية الاقتصادية هي التي أملَت هذا الاتجاه في العلاقة مع الاقتصاد السياسي، أكثَرَ منها توجّهات القوى السياسية، حتى الاشتراكية منها. فعبد الناصر نفسه لم يكن اشتراكياً، بالمعنى الذي نعرفه عنه، قبل منعطف عام 1954، وكذلك الأمر ساسة سوريا الذين دعوه إلى ضمّ البلاد إلى الجمهورية المتحدة، إذ كانت معظم توجّهات الأحزاب حينها تُراوح بين اللبرَلة السياسية والتوجّه الاشتراكي الديموقراطي، كما يعبّر عنه سياسي كبير راحل مثل أكرم الحوراني.

 

الذهاب باتجاه الاشتراكية كانَ تعبيراً عن حاجة تنمويّة ماسّة لسوريا ومصر معاً، أكثَرَ منه ملاقاةً لتيار الاشتراكية الدولية العارم، مع كلّ ما مثّله المعسكر الاشتراكي حينها للإقليم والعالم من أفقٍ للتنمية مفتوحٍ على مصراعيه. وهذه البنية التي احتاجت إلى الاشتراكية حينها، لم تتغيّر بالقدر الذي يتيح حصول رسملة فيها بالطريقة التعسّفية والعشوائية المطروحة اليوم. كان ذلك ممكناً فقط لو تُرك الاقتصاد السوري يتطوّر، كما حَصَل في مصر مثلاً، مع كلّ ما شابَ التجربة هناك من ترسُملٍ مالي وعقاريّ، مصحوب بامتثال لوصفات صندوق النقد الدولي.

 

غير أنّ ذلك لم يحدث بفعل القطيعة التي أحدَثَتها الحرب، مع التراكم الذي تحقَّق للاقتصاد السوري تاريخياً، وعبرَ مراحل عدّة، ما جَعل إمكانية حصول ترسمُل ممسوك في بنيته على الطريقتين المصرية والتونسية ـــــ أي عبر الذهاب إلى الاستثمارات والخصخصة بقيودٍ تحافِظ ما أمكَنَ على أصول الدولة الأساسية ومعها هياكل الدعم ــــــ متعذِّرةً بشدّة. وأتت توجّهات النظام الحالي، التي لا تتجاوَز معرفته بالترسمُل والانتقال إلى اقتصاد السوق حدودَ تعويم الأصول السيادية والعملة الوطنية والخدمات والسلع الأساسية ورفع القيود الحمائية بالكامل عنها، لتضيفَ إلى هذه الاستحالة تعقيداتٍ إضافية.

 

ويمكن القول، إنّ هذه التعقيدات تجعل من أيّ عودة عن الإجراءات تلك، عبر سياسات بديلة يكون فيها للقيود على الاستثمارات والتدفّقات الرأسمالية والتصرُّف بالأصول وهياكل الدعم، دورُ مركزي في التنمية، أمراً في غاية الصعوبة. وذلك بغياب رقابة فعلية من المجتمع وقواه الحيّة ومعارضاته (إن كان ثمّة معارَضة فعلاً)، على أداء السلطة، وتوجّهاتها الاقتصادية الكارثية.

 

* كاتب سوري

 

 

أخبار سوريا الوطن١- الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

حسياء الصناعية بحمص تطرح مقاسمها المُلغى تخصيصها في مزاد علني لتعزيز الاستثمار الصناعي

أجرت المدينة الصناعية في حسياء بحمص اليوم مزاداً علنياً للمرة الأولى لبيع المقاسم المُلغى تخصيصها في المناطق الهندسية، والنسيجية، والكيميائية والغذائية، وفقاً لدفتر الشروط الخاصة، ...