آخر الأخبار
الرئيسية » حول العالم » «إسرائيل» في مرآة يهود العالم: ليست دولة يهودية

«إسرائيل» في مرآة يهود العالم: ليست دولة يهودية

 

 

زاهي وهبي

 

 

تُقدّم «إسرائيل» نفسها على أنها «الدولة اليهودية» والملاذ الآمن ليهود العالم، لكنَّ هذه الصورة لا تنعكس بوضوح في وعي وشعور قطاعات واسعة من اليهود أنفسهم. فرغم عقود من الهجرة والدعاية، فإن علاقة الكثير من اليهود بدولة الاحتلال علاقة إشكالية، تتسم بالتساؤل والنقد، وقد بلغت ذروتها في رفض حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة. هذا الرفض، الذي قاده بشكل لافت الشباب من الجيل Z، يكشف عن هوة عميقة بين ادعاءات الكيان وبين الهوية اليهودية المتعددة في منظور أبنائها.

 

يهودية الدولة كأيديولوجيا وسياسة

منذ المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، كانت فكرة «يهودية الدولة» إحدى الركائز الأساسية للمشروع الصهيوني، بغض النظر عن درجة هذه اليهودية وبعض مضامينها التي كانت مثار جدل بين تيارات معينة في الحركة الصهيونية، وفي معزل عن تقديم الحركة الصهيونية نفسها كـ «حركة علمانية».

 

لقد ولدت فكرة يهودية الدولة ليس فقط كهدف ديموغرافي مفترض، بل كأداة سياسية و«قانونية» لتحقيق أهداف دولة الاحتلال التوسعية. ففي تموز 2003، اتخذ الكنيست الإسرائيلي قراراً يدعو إلى «تعميق فكرة يهودية الدولة وتعميمها على دول العالم»، معتبراً أن الضفة الغربية وقطاع غزة «ليسا أراضي محتلة، لا من الناحية التاريخية، ولا من ناحية القانون الدولي». وهذا الموقف يعكس محاولة الاحتلال المنهجية لطمس الحقوق الفلسطينية وتكريس السيطرة على الأرض.

 

ويمكن إدراك الأهداف الخفية وراء شعار «يهودية الدولة» عبر:

– إنهاء حق العودة، إذ يغلق الاعتراف بـ«يهودية إسرائيل» الباب أمام حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، ويساعد في شطب القرار الأممي 194 من أجندة الأمم المتحدة.

 

– تهميش الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة، عبر سن قوانين الإقصاء الدائم والتهميش المستمر، خصوصاً لمن هم في الأراضي الفلسطينية التي احتلت في عام 1948، والتنكيل بفلسطينيي الضفة وغزة، والتركيز على «الهاجس الديموغرافي» جراء التزايد الطبيعي المرتفع بين أبناء الشعب الفلسطيني.

 

– جذب اليهود كـ«مادة بشرية»، إذ تعتبر الحركة الصهيونية و«إسرائيل» يهود العالم «المادة البشرية لتحقيق أهداف إسرائيل التوسعية من جهة، وركيزة لاستمرار المشروع الصهيوني برمته».

 

يهود العالم و«إسرائيل»: علاقة معقدة

رغم الدعاية المستمرة، فإن العلاقة بين يهود العالم ودولة الاحتلال أكثر تعقيداً مما تظهره الرواية الإسرائيلية الرسمية. فالأرقام تشير إلى أن أقل من نصف يهود العالم يعيشون في دولة الاحتلال، حيث بلغت نسبتهم 46% فقط (7.2 ملايين من أصل 15.7 مليون يهودي) بحسب معطيات الوكالة اليهودية في أيلول 2023. كما كشف تقرير للكنيست أن أكثر من 82 ألف إسرائيلي غادروا الكيان بشكل دائم في عام 2024 فقط، لينضموا إلى عشرات الآلاف الذين فروا في 2023 عقب اندلاع الحرب على غزة.

 

هذه الفجوة بين الدعاية والواقع تعكس طبيعة الهوية اليهودية المركبة، التي لا يمكن اختزالها في الانتماء إلى «دولة إسرائيل». فالهوية اليهودية، كما يحددها الباحثون، يمكن أن تكون:

-هوية دينية: تتبع التعاليم الدينية اليهودية.

-هوية ثقافية: تكون في اتصال مع التراث الحضاري اليهودي عبر اللغة والأدب والفن والموسيقى.

-هوية قومية: تعتمد على الأصول والأسلاف لدى المعتقدين بوجود «مملكة إسرائيل التاريخية».

 

وهذا التعدد يجعل من المستحيل اختزال الهوية اليهودية في الانتماء السياسي لـ«إسرائيل». بل إن يهوداً كثيرين، خاصة في الشتات، يرفضون هذا الربط جملة وتفصيلاً، فضلاً عن وجود تيارات يهودية تعتبر وجود «إسرائيل» وبالاً على اليهود أنفسهم، مثل ناطوري كارتا (Neturei Karta، وتعني بالآرامية «حراس المدينة»، وهي حركة يهودية أرثوذكسية متشددة مناهضة للصهيونية تعارض بشدة وجود «إسرائيل».

 

وقد تأسست في القدس عام 1938، وتعتبر الصهيونية خيانة لليهودية، ويرتكز موقف الحركة على معتقد ديني أساسي، فيه أن الشعب اليهودي يعيش في حالة «منفى» فرضها الله عليهم بسبب خطاياهم. ووفقاً لعقيدتهم، لا يمكن استعادة السيادة اليهودية في «أرض إسرائيل» إلا عبر تدخل إلهي عند مجيء «المسيح المخلص».

 

لذلك تعتبر الحركة أن أي محاولة بشرية لإنهاء هذا المنفى وإقامة دولة يهودية عن طريق القوة أو النشاط السياسي (كما فعلت الحركة الصهيونية) معصية وتحدياً للإرادة الإلهية. وشعارها الرئيسي هو أن «اليهودية لا تساوي الصهيونية» وتؤكد أن دعم الصهيونية يتعارض مع التعاليم الدينية اليهودية الحقيقية.

 

يهود العالم وغزة: رفض جريمة الإبادة

مع بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في تشرين الأول 2023، بلغت عملية القطيعة بين قطاعات واسعة من يهود العالم و«إسرائيل» ذروتها. فقد أكدت لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة أن «إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة»، ووجدت أنّ «الرئيس الإسرائيلي ورئيس الوزراء ووزير الدفاع السابق قد حرضوا على ارتكاب الإبادة الجماعية». هذه الجريمة لم يصمت عليها يهود العالم، بل خرجوا في تظاهرات عارمة رافضين أن تُلصق هوية الإجرام بهم.

 

قاد «جيلZ» وهم الشباب الذين تُراوح أعمارهم بين 18 و 25 سنة، تحولاً تاريخياً في الرأي العام العالمي، وخاصة بين اليهود أنفسهم. هذا الجيل لم يعد يتردد في نقد «إسرائيل» ووصف سياساتها بالمستندة إلى الفصل العنصري والإبادة الجماعية.

 

كما تشير استطلاعات الرأي إلى عمق هذه التحولات، إذ بلغت نسبة من يعتبرون «إسرائيل» دولة فصل عنصري 38% (تحت سن الأربعين)، تقابلها نسبة 13% بين مَن هم فوق سن الرابعة والستين بحسب بيانات من منظمة يهود ديموقراطيين تقدميين عام 2021. كما أظهر استطلاع لمؤسسة «هاريس» أن 60% من شباب «جيل Z» يفضلون حماس على «إسرائيل»، بينما بلغت نسبة التأييد لـ«إسرائيل» بين من هم فوق 65 سنة 89%. هذه الفجوة العميقة تعكس تحولاً جيلياً تاريخياً في نظرة يهود العالم لدولة الاحتلال.

 

انحسار الوهم وبروز الهوية الحقيقية

وهكذا لم تعد «إسرائيل» في نظر قطاعات متزايدة من يهود العالم، تمثل الدولة اليهودية التي تدعيها، بل تحولت إلى دولة تفرض هيمنتها باسم يهودية مزعومة. لقد كشفت جرائم غزة عن الوجه الحقيقي للمشروع الصهيوني، الذي لم يعد قادراً على إخفاء طابعه الاستعماري الاستيطاني تحت شعارات يهودية مجردة.

 

اليوم، يرفض يهود العالم، وفي مقدمتهم شباب جيل Z أن تكون هويتهم ذريعة للإجرام، وأن تكون يهوديتهم غطاء لاحتلال واضطهاد شعب آخر. إنهم يفضلون هوية يهودية منفتحة وإنسانية، قائمة على القيم الأخلاقية الكونية، لا على الانتماء العرقي أو القومي الضيق. وهو ما عبر عنه الصحافي جدعون ليفي بقوله «إننا أمة موبوءة جرباء، العالم يكرهنا بسبب ما قمنا به».

 

لقد نجح جيل Z في كسر الصورة النمطية لليهودي كمناصر تلقائياً لـ «إسرائيل» مهما فعلت، وأسقط أسطورة «المظلومية الإسرائيلية» و«معاداة السامية» التي دائماً ما استخدمتها دولة الاحتلال لتكميم أفواه الناقدين. ها هو صوت اليهود يعلو اليوم رافضاً الادعاءات الإسرائيلية، مؤكداً أن الهوية اليهودية الحقيقية أكبر وأسمى من أن يحصرها مشروع استعماري يستند إلى الإجرام والعنف.

 

فلسطين قضية إنسانية أممية أولاً

هذا الرفض اليهودي المتنامي لـ«إسرائيل» يبرز الآن كفرصة تاريخية لإعادة تعريف أساليب المواجهة، عبر الفصل الجذري بين معارضة الكيان الاستعماري الاستيطاني وبين العداء لليهود كجماعة بشرية أو كديانة.

 

ففيما يشكل رفض الاحتلال ومؤسساته موقفاً أخلاقياً وسياسياً مشروعاً، تظل معاداة اليهود كيهود، انسياقاً وراء منطق عنصري يخدم المشروع الصهيوني نفسه، الذي يسعى دائماً إلى طمس الفارق الجوهري بين إدانة دولة الاحتلال كرأس حربة استعمارية، وبين الكراهية العرقية والدينية.

 

لقد استخدمت «إسرائيل» معاداة السامية تاريخياً كذريعة لتبرير سياساتها، وكورقة توتير تستر جرائمها ضد الشعب الفلسطيني. لذلك، فإن تمييز الخطاب النقدي الموجه للكيان الصهيوني عن أي شكل من أشكال العداء لليهودية، يمثل سلاحاً استراتيجياً في إسقاط هذه الذريعة وكشف حقيقة الصراع: أنه ليس صراعاً دينياً، بل مواجهة مع مشروع استعماري استيطاني يستخدم الدين غطاءً لأطماعه التوسعية.

 

وهنا تكمن المفارقة العميقة: فكلما ارتفع صوت اليهود أنفسهم رافضين لدولة الاحتلال، تأكدت شرعية النضال ضد الاحتلال، وانهارت المقولات الصهيونية التي تسعى إلى اختزال اليهودية في الدفاع عن دولة الاحتلال.

 

إن تضامن شرائح واسعة من يهود العالم مع الحق الفلسطيني، يثبت أن العدالة قضية إنسانية أممية، تتجاوز الانتماءات الدينية والعرقية الضيقة. ويقتضي تعزيز هذا التوجه بناء تحالفات إنسانية عابرة للهويات، تركز على القيم المشتركة من كرامة وحرية ومساواة، وتفكك الإطار الصهيوني الذي يسعى إلى حشر الجميع في صناديق هوياتية مغلقة. فكما قال نيلسون مانديلا: «نحن نكافح ضد الظلم، وليس ضد أناس بعينهم».

 

هذه الرؤية التحررية هي التي يمكن أن تحول الصراع من مواجهة دينية أو عرقية، إلى كفاح سياسي وإنساني ضد نظام فصل عنصري واحتلال استيطاني، ما يوسع قاعدة التضامن العالمي ويحرم الاحتلال من أي غطاء أخلاقي أو سياسي.

 

من هنا، فإن هذا التحوّل التاريخي في نظرة نسبة كبيرة من يهود العالم، ولا سيما في أوساط جيل الشباب، معطوفاً على التضامن الشعبي العارم مع فلسطين الذي شهدته معظم عواصم العالم ومدنه، يستدعي تقديم أولوية النضال الإنساني الأممي على ما عداها، باعتبار تحرير فلسطين ومقاومة الاحتلال قضية تعني كل إنسان حرّ في معزل عن دينه وعرقه وجنسه وجنسيته.

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١- الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

ترامب فوّض ابن سلمان إدارة حوار أميركي – إيراني

    علمت «الأخبار» من مصادر غربية، أن وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، حصل على تفويض من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لإدارة حوار من ...