آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » الليل والدمع في “روميات” أبي فراس الحمداني

الليل والدمع في “روميات” أبي فراس الحمداني

رنا بغدان:

كان الليل ولا يزال رفيق السُّهاد وصديق السُمّار، يجدونه مثيراً للذكريات يرونها طارقة باب الخيال والذاكرة مقتحمة الخواطر والأفكار مهاجمة القلب والعقل. وتبقى النجوم رفيقة الليل تؤنسه في سهره وتدلّ على وقوعه واستمراره. أما الدموع فهي وحدها الحروف التي تتكلم من خلالها العيون واصفة حال ذرّافها. فما الذي أوحى به الليل لدى الشاعر الأسير “أبو فراس الحمداني” الذي ألِفَ صحبته وأطلق لدموعه العَنان في ظلامه الدامس فأبدع “الروميات” التي صورت حقائق النفس الإنسانية الخالدة في غربتها وحزنها وحنينها الأبدي إلى التعبير عن ذاتها وعن كل ما يخالجها من مشاعر.

تعبير عن الذات

والأسر بحد ذاته تجربة حزن ضخمة، نقف فيها أمام حقائق النفس الإنسانية الخالدة وقد حفلت “الروميات” بتصوير عواطف الشاعر الصادقة المخلصة نحو نفسه وأهله وأصدقائه ووطنه، في صور كوّنها في خياله واستمدها من العالم المحسوس إلى جانب ما لا يمكن إغفاله من الصور النفسية والعقلية فنَفَذ من خلالها الى أعماق النفس البشرية وصوّرها في شتى انفعالاتها بعد أن صهرت الآلام نفسه وحركت فيها لواعج الحزن والأسى وألم الوحدة وغصة الاغتراب وذكرى الوطن خاصة في بداية الأسر حين قال:
أراك عصـي الدمـع شيمتـك الصبـر
أمــا للهوى نـهـي عـلـيـك ولا أمـــر
بلـى ، أنـا مشتـاق وعنـدي لـوعـة
ولـكـن مثـلـي لا يـــذاع لـــه ســـر
إذا الليل أضواني بسطت يد الهـوى
وأذللـت دمعـاً مـن خلائـقـه الكـبـر

ألم الأسر

وفي الأسر أقام أبو فراس في “خرشنة” تحت إلحاح القيود والعلة التي طالت به إثر إصابته بسهم بقي نصله في فخذه فصدرت أشعاره عن صدر حرج وقلب شجٍ، وكانت أمه هي الملاذ الأول في محنته فكتب إليها وقد يئس من تغيّر أحواله يعزيها ويذكر لها ما يعانيه في الليل الطويل الذي لا تتحرك نجومه فتوقظ الجراح وترفد غربته بآلام فوق آلام بقوله:
وأسرٌ أقاسيهِ، وليلٌ نجومهُ،
أرَى كُلّ شَيْءٍ، غَيرَهُنّ، يَزُولُ
وَإنّ، وَرَاءَ السّتْرِ، أُمّاً بُكَاؤهَا
عَلَيّ، وَإنْ طالَ الزّمَانُ، طَوِيلُ!
وتجسد قصيدته الدالية التي أرسلها أول أسره إلى سيف الدولة ما يعانيه من الآلام في الليل القاتم، طالباً من أميره افتداؤه شاكياً وحدته مبتدئاً إياها بالدعوى الموجهة من نفس حزينة ومن عيون وجفون قُرّحت من كثرة البكاء والسهد فقال:
دعوتك للجفن القريح المسهد
لدي، وللنوم القليل المشرد

الملاذ بالطبيعة

وأبو فراس في ظلَ ظروفه القاسية، من الطبيعي أن يمتزج حنينه وشوقه إلى دياره ومن بها بالشكوى من بُعد الأحبة وما يعتاده من سهاد وقد نام الناس عن مواجعه وغفل أحباؤه عن آلامه فلم يجد أمامه إلا الطبيعة التي لاذَ بمجاليها ومشاهدها المختلفة محاولاً تشخيصها في صور كائنات حية تحس وتتحرك وتنبض بالحياة فبثها آلامه ولواعجه وحمّلها أشواقه وتحياته. فحاور السحب مقارناً بين دموعه ودموعها، وتسلّم من الريح رسائل شوق ومودة أتته ممن يحب، وتوحّد بنجوم السماء التي أسقط عليها مشاعره وأحاسيسه وأصبحت تربطه بها علاقة وجدانية جعلتها تشاركه همه وحيرته من مكانها العالي وتشفق عليه وترثي لحاله وتكاد تبكي من أجله في قوله:
ما لنجوم السماء حائرة !
أحالها في بروجها حالي ؟

أنين الشكوى

سادت الشكوى الحزينة اليائسة المصبوغة بالدم شعر أبي فراس الذي استفحلت مشاعر الأسى في نفسه لما طال أسره ولم ينهض أميره وابن عمه إلى افتكاكه، فجار بشكواه محولاً شعره إلى أنين موصول وتوّجع مستمر ونجوى حزينة، رقيقة كنفسه عذبة كروحه عميقة كإحساسه شفافة كوجدانه. وقد عبّر شاعرنا عن أزمته النفسية بالنسبة لأقربائه مستخدماً صور الكناية، حيث قدم لنا صورة تفضح زيف علاقة القربى الخالية من الود، وأسلك الدهر في عداد حاسديه وأعدائه، وشبّه لياليه القاتمة بأقاربه وأهله الذين أهملوا أمره ونسوا فضله وتجافوا عنه وتراخوا في وداده. وكذلك الحسّاد وما فعلوا به من عدم الوفاء وإنكار العهود، فقال وهو يسفح الدمع ويرتجي الفكاك :
فريد عن الأحباب صب، دموعه
مثان، على الخدين، غير فرائد

اخبار سورية الوطن 2_الحرية
x

‎قد يُعجبك أيضاً

الأبواب المفتوحة.. ثلاثون عاماً من المحبة

حسيبة صالح : افتتح المعرض السنوي لجماعة “السفينة” في دمشق، لتعلن أن ذوي الإعاقة ليسوا على هامش الحياة بل في قلبها. جاء المعرض ليحوّل الإنجاز ...