مها سلطان
بشكل متزامن، جاء الاتصال الهاتفي بين الرئيس أحمد الشرع وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مع توقيع أربع اتفاقيات جديدة في مجال الطاقة، تتولى بموجبها شركات سعودية تطوير عدد من حقول النفط والغاز في سوريا.
ومع ربط هذا التزامن – توقيتاً – بغداة برقيتي التهنئة اللتين وجههما الأمير محمد بن سلمان للرئيس الشرع ولسوريا بمناسبة الذكرى الأولى للتحرير، فإن مسارات الاتصال الهاتفي تجمع بصورة وثيقة ثلاثة اتجاهات رئيسية متداخلة: دبلوماسية، سياسية، واقتصادية، تتعزز بصورة لافتة عند الحديث عن العلاقات السورية–السعودية وما وصلت إليه من تنسيق وتعاون وانفتاح متسارع.
اللافت أيضاً في الحديث عن هذه العلاقات هو وضعها في إطار الاستراتيجية الخاصة التي يعتمدها الرئيس الشرع في بناء علاقات سوريا الخارجية، ولا سيما مع السعودية التي وصفها بأنها «مفتاح سوريا نحو العالم» خلال مشاركته في أعمال «مؤتمر مستقبل الاستثمار» الذي انعقد في العاصمة السعودية الرياض في 29 تشرين الأول الماضي.
وعندما توضع هذه الاستراتيجية في ميزان المكاسب والخسائر، تتقدم المكاسب بوضوح، إلى حد يجعل الحديث عن «الخسائر» خارج التقييم في المدى المنظور؛ فسوريا بدأت سلسلة مسارات واتجاهات، بعضها أثمر، وبعضها لا يزال في طور التبلور، ما يعني أن الحكم على أي مسار بالفشل أو الخسارة سابق لأوانه.
هندسة العلاقة مع مركز الثقل الخليجي
يرى الباحث السياسي أمجد إسماعيل الآغا، في حديثه لصحيفة “الثورة السورية”، أن الاتصال الهاتفي بين الرئيس الشرع والأمير محمد بن سلمان يعكس لحظة فارقة في مسار إعادة هندسة العلاقة بين سوريا الجديدة ومركز الثقل الخليجي الأهم سياسياً واقتصادياً. ويشير إلى أن الرياض باتت تنظر إلى الرئيس الشرع بوصفه شريكاً محتملاً في ترتيبات ما بعد الفوضى السورية والإقليمية، لا مجرد «ملف أمني أو إنساني» على الهامش.
التوقيت، كما الرسائل الضمنية، يوحي – بحسب الآغا – بأن الاقتصاد يُستَخدَم كبوابة أولى، لكن جوهر الحدث سياسي–استراتيجي يرتبط بإعادة رسم الخريطة الإقليمية وموازين النفوذ في المشرق العربي.
ويضيف في تصريحات لـ«الثورة السورية»: إن اختيار هذا التوقيت، بعد برقيات التهنئة الرسمية من الملك السعودي وولي عهده بمناسبة عيد التحرير، وزيارة الشرع السابقة للرياض لحضور فعالية استثمارية كبرى، يحمل أكثر من رسالة؛ فهو ينقل العلاقة من مستوى المجاملة البروتوكولية إلى مستوى التنسيق السياسي المباشر بين رأس الدولة السورية الفعلي ومركز القرار السعودي الفعلي.
يأتي الاتصال في ذروة تحركات سعودية نشطة على أكثر من جبهة وملف، ما يجعل الملف السوري جزءاً من حزمة أوسع تهدف إلى هندسة توازن إقليمي مستقر يضمن مصالح الرياض، لا مجرد لفتة إنسانية أو إعلامية عابرة. هكذا يتحول «اتصال تهنئة وتنسيق» إلى مؤشر على أن الرياض تختبر جدية الرئيس الشرع في الالتزام بمسار براغماتي أقل أيديولوجية وأكثر قابلية للاستثمار السياسي والاقتصادي.
من الثنائية إلى الإقليمية
نظرياً، لم يتضمن خبر الاتصال الهاتفي بين الرئيس الشرع والأمير محمد بن سلمان تفاصيل كثيرة أو محددة، وإنما جاء – كما هو معتاد – بصيغة عامة تحدد خطوطاً أساسية، وتتحدث عن «بحث القضايا ذات الاهتمام المشترك، والجهود المبذولة لترسيخ الأمن والاستقرار وتحقيق التعافي الاقتصادي في سوريا»، وفق ما جاء في بيان وكالتي الأنباء السورية «سانا» والسعودية «واس».
عملياً، يتجاوز هذا الاتصال مداه المحدد بعلاقات ثنائية بين سوريا والسعودية، وهذا أمر لا يخفى على أحد؛ فدمشق لا ترى في السعودية مفتاحاً نحو العالم فحسب، بل مفتاحاً نحو تحقيق تعافٍ مستدام سياسياً واقتصادياً. وهذا يقود مباشرة إلى استراتيجية الانفتاح الخاصة التي يقودها الرئيس الشرع، حيث بدا واضحاً في الفترة الماضية أنه عمل على تسريع وتوسيع مسار الانفتاح، بحيث تبدأ نتائجه بالظهور على الأرض في أسرع وقت ممكن.
فريق واسع من المحللين والمراقبين يقرأ في الانفتاح السعودي على سوريا – الذي يتعزز بزيارات واتصالات على أعلى المستويات – تأكيداً لدور سعودي متقدم في سوريا، أو، في رواية أخرى، تعزيزاً للنفوذ السعودي فيها. أياً تكن التسمية، فإن العلاقات السورية–السعودية تتجه لتكون محوراً رئيسياً في المنطقة، يستقطب مزيداً من الانفتاح والمكاسب لدمشق. صحيح أن التعافي السوري ما يزال في بداياته، لكن إذا ما سارت التطورات على المنوال ذاته فإن سوريا ستبدأ قريباً جني ثمار هذا المسار.
من هنا، يرى الآغا أن الاتصال بين الرئيس الشرع والأمير محمد بن سلمان يعني عملياً أن سوريا تُعاد إدخالها تدريجياً في الفضاء العربي من بوابة أقوى عاصمة خليجية، ما يمنح النظام الجديد قدراً من الشرعية الإقليمية يُفترض أن يُترجم إلى مقعد أكثر ثباتاً في ترتيبات ما بعد الحرب بالنسبة للداخل السوري.
ويضيف: بالنسبة للسعودية، يسمح لها هذا التواصل بإعادة تعريف دورها في سوريا، من طرف مراقب إلى طرف شريك في صياغة قواعد اللعبة الجديدة. ومن جهة الرئيس الشرع، فإن الاتصال يُعد ورقة داخلية مهمة؛ فهو يقدم للرأي العام السوري رسالة مفادها أن «العهد الجديد» قادر على فتح الأبواب المغلقة وإعادة وصل ما انقطع مع العمق العربي.
«سوريا مع سوريا»
بعد عام على التحرير وسقوط نظام الأسد، استطاعت سوريا أن تفتح فصلاً جديداً في علاقاتها الدولية، كان كثيرون يظنون أنه شبه مستحيل. استدارت دمشق بالكامل – ودفعة واحدة تقريباً – من الشرق إلى الغرب، بلا تعثر كبير ولا سقطات كارثية. بدأت الاستثمارات تعود وتقود عملية كسر الحصار والعزلة عن سوريا، قبل أن تعود دمشق باتجاه علاقات جديدة مع الشرق (روسيا والصين) على قاعدة تصحيح العلاقات، وإعادة تدوير المصالح بما يخدم المصلحة الوطنية السورية أولاً، بعيداً عن حسابات المحاور التقليدية في المنطقة.
كل ذلك تحت عنوان عمل سياسي أطلقه الرئيس الشرع منذ البداية: «سوريا مع سوريا»، مراهناً على إمكانية تحقيق أفضل المكاسب في لعبة التوازنات ومعادلات «اللاعبين المؤثرين» إقليمياً ودولياً.
وهنا تبرز الولايات المتحدة الأميركية، والعلاقة مع الرئيس دونالد ترامب؛ بمعنى تجاوز عقدة أميركا/ترامب وعقوباتها التي كبّلت سوريا لعقود. وهذا ما نجحت به القيادة السورية إلى حد كبير، حيث نشهد اليوم الفصل الأخير من إلغاء العقوبات بشكل نهائي مع اقتراب تصويت مجلس الكونغرس الأميركي على إلغاء قانون قيصر.
هذه العلاقة المتقدمة مع واشنطن كان أساسها ومبدؤها السعودية، والعلاقة الخاصة التي استطاع الرئيس الشرع نسجها مع الأمير محمد بن سلمان. لقد قرأت القيادة السورية المشهد الإقليمي بصورة جيدة، وبنت عليه مكاسبها الدولية والسياسية والاقتصادية.
وحول ذلك يقول الآغا: إن الاتصال بين الرئيس الشرع والأمير محمد بن سلمان هو في العمق جزء من نمط سعودي جديد يقوم على خفض التوترات وتصفير أكبر قدر ممكن من الصراعات المفتوحة لمصلحة التركيز على التحول الاقتصادي الداخلي والرؤية طويلة المدى. وهذا يعني أن الرياض معنية بسوريا مستقرة وقابلة للتنبؤ، أكثر من كونها ساحة لتصفية الحسابات مع الخصوم، وهو ما يضغط على الرئيس الشرع للانتقال من منطق إدارة الفوضى إلى منطق بناء الدولة.
في المقابل، يضيف الآغا، يضع هذا المسار القوى الإقليمية أمام واقع جديد؛ فكل تقدم في العلاقة السورية–السعودية يحد من هامش نفوذ أطراف إقليمية أخرى ويجبرها على إعادة التموضع، سواء عبر صفقات لتقاسم النفوذ أو عبر محاولات لتعطيل هذا التقارب إن تعارض مع مصالحها. داخلياً في سوريا، قد يفتح أي تقارب مع الرياض باب إعادة هندسة المشهد السياسي، عبر الضغط باتجاه تسويات أوسع، أو إعادة دمج بعض القوى المعارضة، وتهدئة السلاح المنفلت، لخلق مناخ يسمح بتدفق رؤوس الأموال الخليجية.
ويتابع الآغا: بهذا المعنى، فإن الاتصال ليس مجرد خبر بروتوكولي، بل حلقة ضمن مسار أوسع «اقتصاد يتقدم كبوابة سياسية تُجبِر الجميع على إعادة التشكل تحت وطأة تحولات إقليمية عميقة»، وسوريا الجديدة تختبر قدرتها على أن تكون شريكاً يمكن الوثوق به، لا مجرد ملف أمني مُدار عن بُعد.
ويخلص إلى أن هذا الاتصال يشكل مرحلة جديدة في العلاقات السورية–السعودية، تتجاوز المواقف السابقة، وتُرسي قاعدة للتعاون الاقتصادي والسياسي في مرحلة ما بعد الحرب، لكنه يبقى – في النهاية – مرهوناً بقدرة الحكومة السورية على تحقيق إصلاحات حقيقية على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
التعافي الاقتصادي والسياسي
بالتوازي مع ما سبق، قرأت القيادة السورية موقع بلادها في المنطقة بصورة دقيقة، بين ما كان قائماً في عهد النظام السابق الذي جر الويلات والكوارث، وبين ما يمكن أن تكون عليه سوريا إذا ما تمت إدارة الدفّة بالاتجاه المعاكس، بما يحولها إلى نقطة التقاء/نقطة وسط، على قاعدة الاستفادة من تجارب دول وجدت نفسها في الموقع ذاته، مثل تركيا – المثال الأبرز – التي اضطرت لإقامة أقصى حد من التوازن في علاقاتها بين الغرب (الولايات المتحدة/الناتو) والشرق (روسيا)، ونجحت في ذلك بصورة واضحة، بحيث لا يمكن لأحد إنكار دورها المحوري وقدرتها على المناورة بذكاء لتكسب في النهاية من كلا الطرفين.
الأمر نفسه يمكن قوله عن السعودية وعلاقاتها الممتدة بين الغرب والشرق. ومن هنا ولجت القيادة السورية وبنت استراتيجيتها، ولا أحد اليوم يستطيع إنكار أنها حققت نجاحات مهمة في فترة زمنية قصيرة.
سوريا الجديدة لا تقول إنها تريد أن تكون «صديقاً للجميع» بالدرجة نفسها، فهذا عملياً غير ممكن في عالم السياسة، لكنها تقول بالمحافظة على علاقات متوازنة، بمعنى أن العلاقات تبنى وفق موقع كل دولة، وحجم المصالح المشتركة معها، ودورها كموقع متقدم في تحقيق الأمن القومي والمصالح الوطنية العليا لسوريا، وطبعاً دورها في عملية التعافي الاقتصادي، فهذا هو الهدف النهائي الذي تسعى إليه دمشق، وهو أساس الاستقرار السياسي والأمني.
وهذا ما تدركه القيادة السعودية جيداً، حيث يرى الآغا أن الرياض تعي أن إعادة استقرار سوريا – ولو تدريجياً – تشكل فرصة استثمارية في بنية تحتية منهارة وسوق واعدة، وتشكل في الوقت نفسه ضرورة أمنية لمنع تحوّل الفراغ إلى بيئة خصبة للتطرف والهجرة غير النظامية.
الحديث عن «فرص تعزيز العلاقات في عدد من المجالات» ليس مجرد عبارة بروتوكولية؛ بل هو فتح لباب مشاريع في الطاقة والإعمار وربما الممرات البرية التي تعيد وصل الخليج بالمتوسط عبر سوريا والعراق والأردن.
مسار الاتفاقيات وآفاقها
لتوضيح ما سبق، تكفي الإشارة إلى أحدث الاتفاقيات التي تم توقيعها، والتي كانت أمس الأول (الثلاثاء)، حيث وقعت الشركة السورية للبترول (SPC) أربع اتفاقيات جديدة مع عدد من الشركات السعودية، شملت خدمات الدعم الفني ومشروعات تطوير لزيادة إنتاج النفط والغاز في سوريا، وذلك خلال مراسم أُقيمت في مقر الشركة بدمشق.
ومن شأن تنفيذ هذه الاتفاقيات – وفق بيانات نشرتها منصة «الطاقة» المتخصصة – أن يحقق تحسناً ملموساً في حياة المواطنين عبر تحسين الخدمات العامة، وزيادة إنتاج حقول النفط والغاز في سوريا. كما تدعم الاتفاقيات توفير فرص عمل جديدة، من خلال جذب استثمارات تعيد سوريا إلى الخريطة الاقتصادية العالمية، وتُسهم في تعزيز التكامل الإقليمي من خلال التعاون في مجال الطاقة.
وتتضمّن الاتفاقيات الأربع: اتفاقية حول المبادئ الأساسية لتطوير حقول الغاز في سوريا وتطوير إنتاجها مع شركة «أديس» السعودية لخدمات حقول النفط. واتفاقية لتقديم الخدمات الأساسية في مجال المسوحات الجيوفيزيائية والجيولوجية في سوريا مع شركة «أركاس». اتفاقية لتقديم حلول متقدمة ومتكاملة لبناء حقول النفط والغاز في سوريا وصيانتها مع شركة «طاقة». واتفاقية حول المبادئ الأساسية لتقديم خدمات حفر آبار النفط والغاز في سوريا وصيانتها مع شركة «الحفر العربية».
وفي تصريح للمهندس يوسف قبلاوي، الرئيس التنفيذي للشركة السورية للبترول، أوضح أن هذه الاتفاقيات هي «عقود خدمات» وليست اتفاقيات شراكة، بمعنى أنها عقود مدفوعة الأجر، لا ترتبط بنسبة من الإنتاج. وأشار إلى أن إنتاج الغاز في سوريا سيزيد بنسبة 25% في شهر حزيران/يونيو 2026، وسترتفع النسبة إلى 50% مع نهاية العام نفسه.
ويأتي توقيع الاتفاقيات الجديدة بعد أيام من وصول منحة النفط السعودي إلى سوريا، المقدّرة بنحو 1.65 مليون برميل، والمخصصة لصالح مصفاة بانياس. ففي 11 أيلول/سبتمبر الماضي، أعلنت السعودية تقديم دعم إلى سوريا لتأمين احتياجاتها من الوقود، من خلال منحة بـ1.65 مليون برميل نفط، لتلبية جزء من احتياجات المواطنين من المشتقات النفطية، إضافة إلى توفير الوقود لمحطات الكهرباء.
ودعمت منحة النفط السعودي تشغيل المصافي، وتحقيق الاستدامة التشغيلية والمالية لقطاع الطاقة، بما يدعم تنمية الاقتصاد، ويُسهم في مواجهة التحديات الاقتصادية في سوريا، وتعزيز قدرة القطاعات الحيوية على النمو.
وتعد الاتفاقيات الأربع جزءاً من سلسلة اتفاقيات تم توقيعها خلال الأشهر الماضية؛ ففي آب/أغسطس الماضي تم توقيع سبع اتفاقيات جديدة من شأنها دعم قطاع الطاقة في سوريا، تنوعت بين الكهرباء والنفط والغاز والطاقة المتجددة، وشملت التعاون في مشروعات محطات النقل والتوزيع والمسوحات الجيوفيزيائية والجيولوجية، وخدمات الحقول النفطية وحفر الآبار وصيانتها، والتدريب الفني وتطوير الأيدي العاملة، وتقديم حلول متكاملة لتطوير حقول النفط والغاز وإدارتها.
بهذا المسار المتدرج، تتقدم استراتيجية الانفتاح المتبادل بين دمشق والرياض، حيث تُبنى شراكة جديدة على قاعدة المصالح المتبادلة، وتتكامل الرسائل السياسية مع العقود الاقتصادية، في محاولة لصياغة معادلة إقليمية يكون فيها استقرار سوريا فرصة مشتركة، لا عبئاً مؤجلاً على الجميع.
أخبار سوريا الوطن١-الثورة السورية
syriahomenews أخبار سورية الوطن
