نور ملحم
لم يكن تمركز الاحتلال الإسرائيلي في جنوب سورية مجرد تطوّر عسكري عابر. منطقة جبل الشيخ، واحدة من أكثر النقاط حساسية في الجغرافيا السورية، تحولت خلال الأيام الماضية إلى ساحة نفوذ إسرائيلي مكشوف، دون أن يثير ذلك أي ردود فعل دولية جدية.
هذا التغاضي ليس بلا تكلفة، فهو يرسل رسالة خطيرة بأن الجنوب السوري مكشوف سياسياً، وأن القوى الدولية مستعدة لقبول واقع جديد طالما أنه لا يمس مصالحها المباشرة.
الصمت الدولي سمح لإسرائيل بتعزيز مواقعها، وتوسيع نشاطها الاستخباراتي والعسكري، والتعامل مع الجنوب كمنطقة منفصلة عملياً عن القرار السيادي السوري.
لكن الأخطر من ذلك هو أثر هذا الصمت على الداخل السوري. فالحدود المُهملة تعني هشاشة المناطق الداخلية أمام الانفلات الأمني، وتوفر فرصاً لقوى محلية رسمية وغير رسمية لتطبيق منطق القوة على حساب القانون والسيادة، ما يعيد البلاد إلى مشهد الفوضى الأمنية الذي سبق النزاع المسلح.
اليوم، نشهد موجة متصاعدة من الخطف والاختفاء القسري والانتهاكات في عدد من المحافظات، تتزامن مع غياب إجراءات جادة للردع والمحاسبة.
ليست هذه الانتهاكات امتدادًا لملفات الماضي، بل ظاهرة جديدة ترتبط مباشرة بمرحلة التفكك التي تعيشها البلاد، واستغلال بعض القوى لفراغ السلطة، وانشغال الدولة بصراعات سياسية على حساب الأمن اليومي للمواطن.
قصص اختفاء الفتيات في أكثر من محافظة، وخطف الشبان على الحواجز أو الطرقات، واحتجاز أشخاص بناءً على انتماءاتهم أو خلافات محلية، أصبحت أحداثًا متكررة.
وفي كثير من الحالات، تتوارى الجهات المسؤولة خلف صيغ غامضة مثل “تحت التحقيق” أو “قيد المعالجة”، قبل أن تنقطع كل خطوط التواصل، ما يعيد البلاد فعلياً إلى دائرة الاعتقال خارج القانون.
ردّ الشارع جاء سريعاً عبر الإضرابات، مع إغلاق مدن متاجرها لأيام، وتوقف جزئي للحياة في مدن أخرى، احتجاجاً على غياب الدولة أمام تغوّل الفصائل والمجموعات المسلحة.
لم يكن ما جرى مجرد احتجاج اجتماعي، بل إعلان سياسي واضح بأن السكان يرفضون العودة إلى مرحلة الرعب اليومي، وأنهم لن يقبلوا باستبدال سلطة مركزية منفلته بسلطات محلية أكثر انفلاتًا.
الوضع في سورية لا يمكن تجزئته: تغاضي المجتمع الدولي عن التمدد الإسرائيلي في الجنوب خلق بيئة إقليمية تعتبر سورية ساحة مفتوحة، وغياب موقف حازم من الدولة في الداخل فتح الباب أمام الانتهاكات.
ومع استمرار هذا المسار، فإن البلاد تتجه نحو نموذج شديد الخطورة يشبه ما حدث في اليمن وباكستان وليبيا حيث أدى الصمت الدولي والانفلات الداخلي إلى نظام اختفاء قسري مستمر لعقود.
في بلوشستان، باكستان، اختفت عشرات الآلاف من الأفراد من السكان البلوش، وواجه الكثيرون القتل خارج نطاق القانون، فيما بقيت عائلاتهم بلا أي معلومات أو حماية.
تم استهداف الطلاب والمحامين والأطباء والناشطين السياسيين بعمليات اعتقال سرية ومداهمات ليلية، وغالباً بدون أي إجراءات قانونية.
على الرغم من احتجاجات السكان ومبادرات المنظمات الحقوقية، ظل الصمت الدولي شبه مطلق، ما جعل من هذه الانتهاكات سياسة شبه دائمة، وأدى إلى تدهور النسيج الاجتماعي وتعميق الشعور بالظلم والاستياء، الذي يمكن أن يغذي التطرف والعنف لاحقًا.
ليس الوضع السوري معزولًا على مستوى المنطقة، فحالات مماثلة تظهر في بلدان أخرى شهدت صراعات داخلية طويلة وانفلاتاً أمنياً.
في اليمن، على سبيل المثال، أدى النزاع المستمر منذ عام 2014 إلى اختفاء آلاف المدنيين على أيدي مختلف الأطراف المسلحة، في ظل غياب محاسبة فعالة.
كثير من هؤلاء المحتجزين اختفوا دون أي إجراءات قانونية، وواجهت أسرهم صعوبات هائلة في الوصول إلى معلومات عن مصير أحبائهم.
كما أظهرت تقارير أممية ومحلية أن هذه الاختفاءات أصبحت أداة للضغط السياسي وترهيب السكان، مما يعمّق شعورهم بالهشاشة والعجز، ويزيد الانقسامات الاجتماعية والسياسية. التجربة اليمنية تؤكد أن غياب سيادة الدولة وغياب الردع يؤديان إلى تراكم أزمات حقوقية مستمرة، وهي تحذير مباشر لسورية من الانزلاق نحو نموذج طويل الأمد من الانتهاكات والانفلات الأمني.
تجارب بلوشستان واليمن تحمل تحذيراً مباشراً لسورية، الإفلات من العقاب، الانقسام الداخلي، وغياب الرقابة الدولية يمكن أن يحوّل الاختفاء القسري إلى واقع طويل الأمد يهدد بقاء الدولة نفسها، الفرق أن سورية ما زالت في بداية هذا المنعطف، وما زال بالإمكان التصدي له قبل أن يتحول إلى واقع دائم.
التحدي لا يقتصر على الاحتلال في الجنوب، بل يشمل كل القوى المسلحة داخل البلاد التي تمارس سلطة غير شرعية على حياة الناس.
إعادة ترميم مفهوم السيادة الوطنية، وضمان محاسبة منتهكي القانون، ومعالجة الاختفاء القسري كملف سياسي عاجل، هي شروط أساسية لمنع تفاقم الأزمة. الصمت الدولي خطير، لكن الصمت الداخلي أخطر.
إن استمرار هذه السياسات يهدد تكوين جيل كامل يختفي في الفراغ، بينما تبقى ملفاتهم معلّقة، على غرار آلاف المفقودين في مناطق نزاع أخرى. حماية المدنيين، وضمان مساءلة الدولة نفسها عن أي اختفاء قسري، هي الطريقة الوحيدة لمنع تحوّل سورية إلى بلوشستان أو اليمن الجديدة في قلب الشرق الأوسط.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _راي اليوم
syriahomenews أخبار سورية الوطن
