علي الرّاعي:
(وردٌ، وقتُ الغياب، وقتُ الأميرة، احتمالات، ومضات، دلالات، وقتُ المنفى، حالات، قصائد وأعمدة..) تلك عناوين ضمتّها المجموعة الشعرية للأديب علم الدين عبد اللطيف، الصادرة عن دار بعل بدمشق بعنوان رئيسي جامعٌ بينها باسم (سيدة الماء)، حيث يكاد كلّ عنوان من هذه العناوين الداخلية والذي يجمع تحته عشرات النصوص الأخرى معنونة بأرقام أن يُشكّل مجموعة مستقلة بذاته.. إذ تتنوع النصوص في طولها بين الومضة من بضعة أسطر، أو النص الذي يأخذ صفحة أو أكثر من صفحتين، بما يشبه المتواليات الشعرية، التي تتوالد وتتناسل كسلسة من مناخات شعرية متقاربة تحت كلِّ عنوان..
“أنا.. أنت؛
ماءان كنا.. ثم صرنا
كون ماءٍ واحداً..!
هو كالتمازج في العناصر؛
لا يُتيح لجمعهنّ تباعدا..”
علم الدين عبد اللطيف الذي وزّع شواغله الإبداعية في أكثر من منحى أدبي: الرواية، القصة القصيرة، النقد الأدبي، ويبدو في تعبه ينشدُ الشعر راحةً لروحه العطشى، لتأتي (سيدة الماء) قصيدة كنسماتٍ صيفية كثيراً ما تحمل ندى أو مطراً خفيفاً.. يقدم الشاعرُ في هذه المجموعة عالماً شعرياً مكثفاً يستدعي القارئ إلى مشاركة وجدانية عميقة، إذ تتحول الكلمات إلى كائناتٍ حيّة تنبضُ بالجمال والمعنى، في حوارٍ شعري يُجسد الأنوثة والماء والغياب كرموزٍ وجودية تثير التأمل والتساؤل.
“ذوائب
فيما أحلامي تختلس الألوان؛
تنامُ عيناك في الحبق،
وتتدلى ذوائبُ صبحك
في عالمي ثريّات..”
تأتي المجموعة تحت عناوين داخلية عديدة ما يعكس تنوعاً موضوعياً وأسلوبياً ملحوظاً.. هذا التنظيم لا يعكس تعددية في المضامين فحسب، بل يُشير إلى رغبة الشاعر في تقديم مقاطع شعرية متوالدة، هذا التوالد النصي يخلق تكاملاً ديناميكياً بين أجزاء المجموعة، ويجعل من كلٍّ عنوان عالماً مستقلاً ومتصلاً بآن بالعوالم الأخرى.
” لأميرتي ماء التكوّن،
وانبثاق الغصن منها..
هل تراه..
أخضرَّ من حُيلائها في سره؟!
ولي التشهّد
أن ماء الخلق عنّدها،
ورشّ رشاشةً من طيبها
في بحره..”
تظهر الأنوثة في الشاعر كقوة مقدسة خلاقة، كما في “وقت الأميرة” النص أعلاه ونص “وأميرتي من ثلج كفيها؛ تمدُّ صقيعها صوب البراعم في الربيع..”.. هنا تتحول الأنثى إلى أصل الوجود، فهي تحمل “ماء التكون” وتتماهى مع الطبيعة في انبثاقها الغصني. هذه الرمزية تُذكر بأسطورة الخلق حيث الماء أصل الحياة، لكن الشاعر يضفي على الأنثى قدسية خاصة تجعلُ منها مصدراً للخصب والنماء. اللافت هنا أن الثلج – وهو صورة للبرودة – يتحول إلى مصدر دفء وحياة للبراعم في الربيع، ما يعكس الانزياح الشعري الذي يميز لغة الشاعر، حيث تنقلب التضادات إلى تكاملات .
“الموت منفانا الوحيد..
بسربٍ من وعود
ما كنت أقصده..
ولن أهديه من دمعي سلاماً،
ثمّ أذهبُ صوبه كي لا أعود!!”
يمثلُ الماء عنصراً مركزياً في المجموعة، كما يبدو من العنوان الرئيسي “سيدة الماء”. فالماء يرمز للحياة والخصب، لكنه أيضاً يحملُ دلالات الغياب والموت، كما في النص السابق.. هنا يتحول الموت إلى منفى، لكنه منفى يُرافقه “سربٌ من وعود”. هذه المعالجة للموت تعكس رؤية وجودية تتعامل مع الفناء كمصير، لكنها ترفض إضفاء طابع المأساوية عليه. وفي نصِّ آخر تتجلى هذه الرؤية بشكل أكثر وضوحاً: “موتٌ على موت.. ومن شوكٍ تبرعمَ صاعداً يلتفُّ من حول الجسد”.. حيث يبرعم الشوك صاعداً حول الجسد، في صورة توحي باستمرار الحياة حتى في لحظة الموت..
” يمدُّ البحرُ راحتهُ في الليل..
فيطلع وجهها نبتةً طازجة
تحملُ رغوة الموج..!!
هو وجه سيدة البحر..!!
حين أغواها بمغادرة الماء
لم تطل الإقامة على الشط..
وعندما استحضر الرولُ بياضه؛
كانت هي صاحبة وقت المدّ..
مدّت بساطها
وتناغما..”
يتميز أسلوب عبد اللطيف بشعرية عالية تعتمد على الانزياح اللغوي والصور غير المألوفة، كما في النص أعلاه:”يمدُّ البحرُ راحتهُ في الليل.. فيطلع وجهها نبتةً طازجة تحملُ رغوة الموج..!!”.. هنا يتحول البحر إلى كائن حي يمدُّ راحته، ويطلع الوجه نبتة طازجة تحمل رغوة الموج. هذه الصورة تجمعُ بين العناصر الطبيعية (البحر، النبتة، الموج) في تكوين غرائبي يخلق شعوراً بالدهشة حيث اللغة الشعرية التي تخلق عالماً متخيلاً يمتزج فيه الواقعي بالمتخيل. وتكثر في النصوص المفارقات التي تعكس رؤية الشاعر للوجود، كما في نص “دلالات”:
“أوقفني على رجل واحدة طويلاً..
قلت: أبدّل
قال: لم يعد للرجل الأخرى
مكان بعد مفارقتها مكانها كلّ هذا الوقت..”
هنا تتحول الوقفة على رجل واحدة إلى موقف وجودي، حيث يصبح التبديل مستحيلاً لأن الرجل الأخرى “لم يعد لها مكان”. هذه الصورة ترمز إلى الالتزام بالمصير أو خطأ اختيار الموقف، رغم قسوته. وفي نص آخر مفارقة أخرى: “أوقفني في آخر طريق الرحيل الصاعد وقال: أوصيك بشدّة أن تجلس وترتاح، أما شعرت بتعب الطريق؟..” حيث يصبح الرحيل صعوداً، والراحة في نهاية الطريق، في مفارقة تعكس رؤية الشاعر للحياة كرحلة متعبة تستدعي الراحة حتى لو كانت في لحظة الوداع.
تمتاز نصوص عبد اللطيف باقتصادها اللغوي وكثافتها الدلالية، باعتماده على التكثيف والاختزال، وفي هذا النص على سبيل المثال:
“قبلات
هي كؤوس تنتظر شفتيك،
وتحرص أن تظل ممتلئةً
كي لا تجف أجمل القبلات على حوافها..”
يُقدم الشاعر صورة مكثفة للقبلات ككؤوس تنتظر الشفتين، في تركيبٍ لغوي يحمل دلالات عاطفية عميقة.. كما يستخدم التكرار كتقنية أسلوبية لخلق إيقاع داخلي وتعزيز الدلالة، حيث ترد كلمة “سلام”- على سبيل المثال- متكررة: في نص
“سلامٌ ل(ورد)..
وهي توصل لغتها إلى المتحلقين حولها..
سلامٌ لقبعتها الوارفة بالغيم والماء..
ولوعودٍ أخضر زفتّه إلى الحقول..”
هذا التكرار يخلق ترنيمة شعرية تعكس حالة من التبجيل والتقدير للمخاطبة “ورد”. ويظهر التكرار في النص الذي بدأنا به بكلمة “ماءان” ثم “كون ماءٍ واحداً”، ما يعزز فكرة الاتحاد والتمازج. وتكثر أيضاً الرموز التي تحتمل تأويلات متعددة، فـ”سيدة الماء” قد ترمز إلى الأنثى، أو الطبيعة، أو حتى الوطن. وقد تتحول “سيدة البحر” إلى كائن أسطوري:
“هو وجه سيدة البحر..!!
حين أغواها بمغادرة الماء
لم تطل الإقامة على الشط..”
هذه الصورة قد تحمل دلالات متعددة، من اغتراب الأنثى عن طبيعتها، أو اغتراب الإنسان عن عالمه الطبيعي. في مجموعة “سيدة الماء”، يقدم علم الدين عبد اللطيف شعرية متميزة تعتمد على اختزال العالم في صور شعرية مكثفة، حيث تتحول الأنوثة والماء والغياب إلى رموز وجودية تثير التأمل. هذه الشعرية تتجاوز الوصف إلى التماهي مع العالم، فيصبح الشعر فضاء لهذا التماهي بين الذات والكون.
syriahomenews أخبار سورية الوطن
