محمد طه الأحمد
شهد المجتمع السوري خلال العقود الماضية حالة معقدة من التوترات الاجتماعية والسياسية، تفاقمت بفعل سياسات الحكم التي اتسمت بالاستقطاب والتوظيف السياسي للهويات الفرعية. وقد عزز ذلك الانقسامات الطائفية والعرقية، وأدى إلى هشاشة البنية الاجتماعية وتصدع الثقة بين مكونات المجتمع، خاصة مع الاعتماد السياسي على الأقليات وتهميش قطاعات واسعة من المواطنين.
وبعد سقوط النظام، ظهرت التحديات الاجتماعية بشكل أوضح، حيث باتت الانقسامات تعيق مسارات إعادة الإعمار والتنمية، وتؤثر بصورة مباشرة في إدارة السياسة الداخلية والخارجية، وفي تشكيل هوية الدولة الجديدة.
في هذا السياق، تتجسد الحاجة الحقيقية إلى بناء مشروع وطني جامع يشتمل على معالجة علمية وموضوعية للمشكلات المتراكمة. إذ لا يزال جزء من المؤيدين يجد صعوبة في الاعتراف بأن حكم الرئيس المخلوع بشار الأسد اتسم بالفساد والاستبداد، بينما يعجز كثير من الثوريين عن تجاوز جراح الحرب العميقة وما ترتب عليها من مظالم. ويمثل هذا الانقسام تحديا مركزيا أمام أي عملية تحول سياسي ناجحة.
عدم قدرة قطاعات من الثوار على تجاوز جراح الماضي وما يرتبط بها من مظلوميات، مما يصنع حاجزا نفسيا يعيق المصالحة الوطنية
أين المشكلة؟
تتمثل المشكلة الأساسية في استمرار الانقسام الاجتماعي والذهني بين فئات المجتمع السوري بعد سقوط النظام، وانعكاس هذا الانقسام على التنمية والسياسة الداخلية والخارجية.
ويتجلى ذلك في ثلاثة أوجه رئيسية:
غياب الثقة المتبادلة بين المكونات المجتمعية نتيجة تراكمات الصراع والسياسات السابقة.
عدم قدرة المؤيدين للنظام البائد على تجاوز الانتماء السياسي السابق أو الاعتراف بفساد مرحلة الحكم الماضية، مما يعطل بناء رؤية مشتركة للمستقبل.
عدم قدرة قطاعات من الثوار على تجاوز جراح الماضي وما يرتبط بها من مظلوميات، مما يصنع حاجزا نفسيا يعيق المصالحة الوطنية.
وتمثل هذه المشكلة عائقا بنيويا أمام أي مشروع إصلاحي أو سياسي، نظرا لأن التنمية السياسية والاجتماعية تحتاج إلى استقرار اجتماعي، وإلى أشكال من الوفاق الأهلي.
ما الحل؟
لا بد للحل من توصيف المشكلة الاجتماعية توصيفا دقيقا، وتحديد العوامل المسببة للانقسام، مثل:
سياسات الإقصاء والتمييز السابقة.
ذاكرة الحرب والصدمات النفسية الجماعية.
استخدام الهوية الطائفية أداة سياسية.
غياب المؤسسات العادلة والمستقلة.
أدوات الحل
تعد هذه المرحلة ضرورية لتصميم تدخلات واقعية لا تعتمد على الانطباعات، بل على البيانات والتحليل العلمي. لذلك، لا بد من بناء برامج تدخل قابلة للاختبار:
أولا: برامج المصالحة المجتمعية التجريبية
تنفيذ مشاريع تجريبية في مناطق مختلفة بهدف قياس أثر:
جلسات الحوار المجتمعي.
برامج الدعم النفسي – الاجتماعي للضحايا.
مبادرات «الاعتراف المتبادل بالمعاناة».
ثم تقييم هذه البرامج لمعرفة ما ينجح منها وما يحتاج إلى تعديل.
لا بد من الاستفادة من تجارب دول مرت بظروف مشابهة، مثل: رواندا بعد الإبادة الجماعية، وجنوب إفريقيا بعد الفصل العنصري، والبوسنة والهرسك بعد الحرب الأهلية
ثانيا: تجارب إدارة محلية تشاركية
إنشاء مجالس محلية مشتركة بين فئات كانت على طرفي الصراع، ثم تقييم:
مستوى التعاون.
قدرتها على حل المشكلات الخدمية.
أثرها في تخفيف التوتر بين السكان.
ثالثا: تجارب تعليمية حول المواطنة والعدالة الانتقالية
إدخال مناهج تجريبية في المدارس والجامعات لتعزيز:
قيم المواطنة المتساوية.
احترام التعددية.
نبذ الكراهية والتعصب.
ثم قياس انعكاس هذه المناهج على وعي الطلاب من خلال استبيانات قبلية وبعدية.
ولا بد من الاستفادة من تجارب دول مرت بظروف مشابهة، مثل:
رواندا بعد الإبادة الجماعية.
جنوب إفريقيا بعد الفصل العنصري.
البوسنة والهرسك بعد الحرب الأهلية.
وتساعد المقارنة في تحديد:
أي الأدوات يمكن أن تنجح في سوريا.
وأين يجب تعديل التجارب لتناسب الخصوصية السورية.
من المقترحات: المصالحة الوطنية لا تتحقق بمجرد سقوط النظام، بل بوجود مشروع وطني تشاركي مبني على العلم والمعرفة
العدالة الانتقالية كإطار علمي مؤسسي
يتطلب الأمر تفعيل برامج العدالة الانتقالية وفق المعايير الدولية، وتشمل:
كشف الحقيقة.
جبر الضرر والتعويضات.
إصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية.
ضمان عدم التكرار.
وقد أثبت علميا نجاح هذه الأدوات في العديد من الدول في تخفيف آثار الانقسام.
الاستنتاجات
الانقسام الاجتماعي في سوريا ليس حدثا طارئا، بل بنية تراكمية تحتاج إلى معالجة طويلة الأمد.
الحل لا يمكن أن يكون سياسيا فقط، بل يجب أن يشمل أدوات اجتماعية ونفسية وتعليمية وتنموية.
المصالحة الوطنية لا تتحقق بمجرد سقوط النظام، بل بوجود مشروع وطني تشاركي مبني على العلم والمعرفة.
التجريب والقياس والتقييم المستمر ضرورية لتطوير سياسات ناجحة بدلا من الاعتماد على الشعارات.
أي سياسة خارجية أو بناء لشكل الدولة المقبلة سيبقى هشا ما لم يتحقق تماسك اجتماعي حقيقي في الداخل.
المقترحات
تأسيس هيئة وطنية للمصالحة والعدالة الانتقالية بمشاركة ممثلين عن جميع المكونات.
إطلاق برنامج وطني لدعم الصحة النفسية يركز على شفاء جراح الحرب الجماعية.
إنشاء منصات حوار دوري بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين في الداخل والخارج.
صياغة منهاج تعليمي جديد يرسخ قيم المواطنة والعدالة والمساواة.
تطوير إدارة محلية تشاركية تعطي المواطنين تجربة عملية للتعاون بعيدا عن الاستقطاب.
إطلاق إعلام وطني مستقل يعمل على تعزيز الوعي وتخفيف خطاب الكراهية.
وضع استراتيجية تنمية شاملة تركز على المناطق المهمشة لخفض التوترات الاجتماعية.
أخبار سوريا الوطن١-الجزيرة نت
syriahomenews أخبار سورية الوطن
