د. سلمان ريا
لم تكن تسمية «القطر السوري» مجرد اختيار لغوي في الخطاب السياسي، بل تعبيرًا دالًا عن تصور محدد للدولة والشرعية والهوية. فمنذ منتصف القرن العشرين، ولا سيما عقب تجربة الوحدة السورية–المصرية (1958–1961)، دخل هذا المصطلح الحقل السياسي العربي بوصفه توصيفًا لكيانات لم يعد يُراد لها أن تُفهم دولًا مكتملة السيادة، بل وحدات إقليمية مؤقتة في إطار مشروع قومي مؤجَّل.
لم تتشكّل كلمة «القطر» هنا بوصفها مفهومًا نظريًا مكتمل البنية، بل جاءت حلًا لغويًا–سياسيًا مأزومًا أعقب فشل أول تجربة وحدوية عربية حديثة. فقد كشفت الوحدة مع مصر، التي قُدّمت آنذاك باعتبارها تحقيقًا لحلم الأمة الواحدة، هشاشة البناء المؤسسي، وعمق الفجوة بين الدولة والشعار، واستحالة إدارة كيان موحّد في غياب دولة قانون ومؤسسات. ومع انهيار التجربة، لم تُجرَ مراجعة فكرية جذرية، بل جرى الالتفاف على الفشل عبر إعادة توصيف الكيانات القائمة بوصفها «أقطارًا» لم يحن أوان اكتمالها بعد.
منذ ذلك الحين، تحوّل «القطر» من توصيف مرحلي إلى صيغة دائمة. ومع صعود حزب البعث إلى السلطة، جرى تثبيت هذا الفهم دستوريًا وثقافيًا، بحيث أصبحت سوريا تُعرَّف رسميًا على أنها «قطر من أقطار الأمة العربية»، لا دولة وطنية مكتملة السيادة. وبهذا التحول، أُخرجت الحدود من كونها إطارًا قانونيًا لتنظيم المجال السياسي والاجتماعي، وأُعيد تعريفها بوصفها أثرًا استعماريًا مؤقتًا، فيما أُحيل مفهوم الدولة إلى أفق مؤجَّل يتقدّم فيه الشعار الأيديولوجي على العقد الاجتماعي.
لم يكن لهذا التحول أثرٌ لغوي فحسب، بل ترتّبت عليه نتائج سياسية عميقة. فحين تُعلَّق فكرة الدولة، تُعلَّق معها فكرة المواطنة، وحين يُنظر إلى الكيان السياسي بوصفه مرحلة لا غاية، تتراجع المحاسبة لصالح الولاء، وتُستبدل الشرعية الدستورية بشرعية تمثيل «المشروع الأكبر». فالدولة الحديثة، في معناها السياسي، كيان مسؤول عن الحاضر، بينما «القطر» كما استُخدم في هذا السياق، ظل وعدًا مفتوحًا بالمستقبل دون التزام فعلي تجاه الواقع.
وتتبدّى المفارقة في أن سوريا كانت من أوائل بلدان المنطقة التي شهدت تجربة دستورية وبرلمانية مبكرة، ونقاشًا جديًا حول السيادة والتمثيل والحقوق. غير أن هذا المسار لم يُستكمل، بل جرى تعطيله لصالح قفزة أيديولوجية فوق الدولة الوطنية. وهكذا، بدل أن تشكّل القومية العربية إطارًا لتطوير الدولة، تحوّلت إلى أداة لتقليصها، وبدل أن تكون الوحدة نتيجة نضج سياسي ومؤسسي، غدت بديلاً عنه.
وعلى الرغم من انهيار التجربة الوحدوية الوحيدة في وقت مبكر، لم تُستخلص دروسها السياسية. لم يُطرح سؤال شروط الوحدة ولا حدودها، بل استمر التداول بالمصطلحات ذاتها، وكأن الزمن توقّف عند لحظة الوعد الأولى. في هذا السياق، حافظ مفهوم «القطر» على دوره بوصفه ركيزة رمزية لشرعية تتجنّب الاعتراف بأن الدولة المؤجَّلة تحوّلت فعليًا إلى دولة معطَّلة.
بعد عام 2011، انفجرت هذه الإشكالية على نحو مكشوف. فلم تواجه سوريا أزمة استقرار فحسب، بل أزمة تعريف سياسي عميقة. فالكيان الذي لم يُنجز تاريخيًا بوصفه دولة مواطنين، وُضع أمام اختبار الوجود. وفي غياب دولة وطنية محايدة وراسخة، برزت أنماط انتماء ما دون الدولة: الطائفة، والعشيرة، والسلاح، والتدخل الخارجي. ولو كانت الدولة قد أُنجزت بوصفها إطارًا جامعًا ومحايدًا، لكان الصراع سياسيًا قابلًا للإدارة، لا انقسامًا وجوديًا مفتوحًا.
يتّضح هنا أن المعضلة لم تكن في غياب الوحدة، بل في غياب الدولة. فلا وحدة مستدامة بلا دول قوية، ولا تنوّع قابل للإدارة بلا قانون، ولا استقرار من دون عقد اجتماعي واضح. إن تحويل سوريا إلى «قطر» لم يحصّنها من التفكك، بل جعل بنيتها أكثر هشاشة عند أول اختبار بنيوي.
وعلى المستوى اللغوي–الفلسفي، يعكس الفرق بين مفهومي القطر والدولة جوهر الإشكال. فالقطر يدل لغويًا على الجزء والناحية، ويفترض كلًّا سابقًا عليه، بينما الدولة في معناها الحديث كيان مكتمل السيادة، قائم بذاته، ومسؤول عن مواطنيه وحدوده ومؤسساته. القطر يعيش في منطق الانتظار، أما الدولة فتتحرك في منطق المسؤولية. القطر يُدار بمنطق التعبئة، والدولة تُدار بمنطق القانون.
وفي الفكر السياسي العربي، جرى تصوير الدولة الوطنية بوصفها نقيضًا للأمة، رغم أن التجربة التاريخية تُظهر أن الأمم لا تقوم إلا عبر دول مستقرة، وأن المشاريع العابرة للحدود لا تنجح إلا إذا استندت إلى كيانات تحترم القانون والمواطنة. إن نزع الشرعية عن الدولة باسم حلم أكبر لم يؤدِّ إلى تحقيق ذلك الحلم، بل إلى تآكل الواقع السياسي والاجتماعي.
من هنا، فإن استعادة سوريا اليوم لا تمر عبر إعادة إنتاج خطاب «القطر»، ولا عبر استدعاء مشاريع وحدوية مجردة، بل عبر إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة بوصفه شرط العدالة والاستقرار والتعايش. دولة لا تنفي انتماءها الثقافي والتاريخي، لكنها لا تؤجّله على حساب مواطنيها، دولة لا ترى نفسها مرحلة عابرة، بل وطنًا نهائيًا قادرًا على إنتاج وحدته من مكوّناته الداخلية.
إن الانتقال من «القطر» إلى الدولة ليس تعديلًا اصطلاحيًا، بل تصحيح لمسار تاريخي طويل تأجّل أكثر مما ينبغي.

(موقع أخبار سوريا الوطن)
syriahomenews أخبار سورية الوطن
