آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » وهم نظرية الرجل القوي …

وهم نظرية الرجل القوي …

 

 

انس جودة

 

في حزيران 2014، كنا في اجتماعٍ مغلق في جنيف يضمّ شخصيات مدنية وقيادات من فصائل مسلّحة، نضع اللمسات الأخيرة لمبادرة “خطوات” لوقف إطلاق النار على كامل الجغرافيا السورية وذلك بعد حوالي سنة من الاجتماعات واللقاءات والمفاوضات الصعبة. فجأة خلال الاجتماع وصل الخبر إلى القاعة: داعش احتلّ الموصل. ساد صمتٌ ثقيل. ثم أغلق أحد القادة العسكريين أوراقه وقال بوضوح وحسم: «انتهت هذه المبادرة اليوم. لا أستطيع الذهاب إلى أي مسار سياسي بعد الآن. أي خطوة تهدئة ستعني أن مقاتليّ سيذهبون إلى داعش». لم يكن يبرّر داعش، بل كان يصف واقعاً قاسياً حين يصبح التطرّف هو السقف الأعلى للشرعية، تتحول السياسة إلى خسارة تنظيمية فورية.

 

تلك اللحظة لم تكن تفصيلاً عابراً بل كاشفة لآلية تتكرر حتى اليوم. في البيئات التي تُدار بالعنف، لا يُهزم الفاعلون لأنهم خسروا معركة عسكرية، بل لأنهم خسروا سوق الشرعية. حين ترتفع المزايدة العقائدية، يصبح الاعتدال انتحاراً تنظيمياً ويُدفَع المقاتلون تلقائياً نحو الجهة الأكثر تطرفاً لأنها تمنحهم معنى وهوية وسقفاً أعلى للقوة.

 

من هنا تبدو نظرية “الرجل القوي” مغرية وساذجة في نفس الوقت . يتم الترويج اليوم لمقولة أن الاستقرار يحتاج رجلاً قادراً على الضبط، يعرف هذه الجماعات من الداخل، ويفهم لغتها. لكن التجربة تقول العكس: منطق القوة لا ينتج نهاية للعنف، بل يفتح باباً لمزايدة دائمة على القوة نفسها. سيظهر دائماً رجل أقوى، أو أكثر تشدداً أو أكثر استعداداً للذهاب إلى النهاية. ومع كل دورة، تنزاح القواعد المقاتلة نحو التطرف، لا لأنهم أشرار بالفطرة، بل لأن بنية الشرعية المفروضة لا تترك لهم خياراً آخر.

 

هذا المنطق لا يخص الحركات الجهادية وحدها. ففي غياب الدولة، كل عصبية مرشحة لإنتاج “رجلها القوي”: ميليشيا إثنية، زعيم محلي، أو حتى شبكات مافيا اقتصادية. النتيجة واحدة: استقرار مؤقت، ثم صراع جديد، ثم طلب اعتراف دولي جديد بقوة الأمر الواقع. هكذا ندخل في دورات غير منتهية من العنف المُدار.

 

الخلاصة بسيطة وقاسية: لا يمكن هزيمة التطرف بأدواته. ولا يمكن بناء استقرار دائم عبر حكم الميليشيا، مهما بدا منضبطاً أو براغماتياً البديل الوحيد القابل للحياة هو الدولة: شرعية قائمة على المواطنة، احتكار قانوني للعنف، ومسار سياسي يَسحب المعنى من السلاح ويعيده إلى المجتمع. كل ما عدا ذلك ليس حلاً بل تأجيل مقصود للانفجار التالي.

 

سوريا لك السلام

 

(أخبار سوريا الوطن-1)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

متى تأفل الإمبراطورية الأميركية؟

  كريم حداد     لا تأفل الإمبراطوريات فجأة، ولا تُهزم عادةً عند حدودها الخارجية، بل تبدأ في التراجع عندما تفقد القدرة على إعطاء القوة ...