آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » السينما العربية في 2025: ذاكرة مفتوحة على الجرح

السينما العربية في 2025: ذاكرة مفتوحة على الجرح

 

شفيق طبارة

 

 

في 2025، برزت السينما العربية كمساحة توثيق وتحليل للواقع السياسي والاجتماعي، عبر أفلام تناولت فلسطين والعراق ومصر والخليج. ثلاثة أعمال فلسطينية وصلت إلى الأوسكار، وأخرى أعادت تفكيك الاستبداد والهجرة والجسد والهوية، وقدّمت سرديات دقيقة عن زمن عربي مأزوم بلا مواربة

 

في عام تتكثّف فيه الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على امتداد العالم العربي، تخرج السينما كمساحة نادرة للبوح، ولإعادة ترتيب الفوضى، ولصياغة معنى جديد للوجود في منطقة لم تعرف يوماً استراحة من العنف أو التحوّلات.

 

أرشيف حيّ للذاكرة

 

من فلسطين إلى العراق، ومن مصر وتونس والسعودية، قدّم صانعو الأفلام هذا العام أعمالاً تتجاوز حدود السرد التقليدي، وتعيد للسينما دورها كأرشيف حيّ للذاكرة، وكأداة مقاومة، وكنافذة على هشاشة الإنسان وقوّته في آن واحد.

 

ما شهدناه في 2025 هو لحظة نادرة تتقاطع فيها الجرأة الفنية مع الحاجة الملحّة إلى الشهادة: ثلاثة أفلام فلسطينية تصل إلى القائمة القصيرة للأوسكار، وأعمال عراقية تعود إلى زمن القبضة الحديدية، وتجارب مصرية تكشف هشاشة الجسد والمهاجر والمهمّش، وأفلام خليجية تعيد تعريف الرحلة والهوية والأنوثة.

 

تتحوّل الطفلة التي تركض حافية في «فلسطين 36» إلى رمز لمستقبل شعب بأكمله

 

 

كل فيلم يفتح باباً على ذاكرة شخصية تتحوّل إلى ذاكرة جماعية، وعلى جرح فردي يصبح مرآةً لجرح شعب، وعلى لحظة صمود صغيرة تحمل في داخلها تاريخاً كاملاً من المقاومة.

 

هنا، تتحوّل الطفلة التي تركض حافية في نهاية «فلسطين 36» إلى رمز لمستقبل شعب بأكمله، وتصبح الكعكة التي تُجبر طفلة عراقية على صنعها في «مملكة القصب» مرآةً لسلطة تُفرض على تفاصيل الحياة اليومية، ويتحوّل صوت هند رجب إلى وثيقة حيّة عن الخوف والنجاة، بينما يغوص «يونان» في أعماق الروح المهاجرة، ويكشف «عائشة لا تستطيع الطيران» عن جسد محاصر لا يتوقف عن الحلم، وتعيد «هجرة» رسم علاقة النساء بذواتهن وبالعالم من حولهن.

 

مساحة للأمل

 

في عام يزدحم بالتحوّلات، تبدو هذه الأفلام كأنها تقول لنا: إن السينما ليست ترفاً، بل ضرورة وجودية، وإن الصورة قادرة على حمل ما تعجز عنه السياسة، ومنح شعوب بأكملها مساحة للتنفس، وللتذكّر، وللأمل.

 

الأفلام التي شاهدناها في عام 2025، سواء انطلقت من جذور المقاومة التاريخية، أو من الذاكرة الحميمة، أو من صمود الطفولة، أو من الواقع القاسي، تؤكد على أنّ السينما العربية لا تكتفي بمجرد البقاء، بل تعيد تعريف نفسها بجمال ووضوح وإلحاح. إليكم أبرز الأفلام التي شكّلت عنوان عام 2025 بالنسبة إلينا.

 

■ ■ ■

 

«اللّي باقي منّك»

شيرين دعيبس

 

على مدار ساعتين ونصف الساعة تقريباً، تروي المخرجة الفلسطينية الأميركية شيرين دعيبس قصة شريف، وحنان، وسليم، ونور، وغيرهم. تنقلنا من يافا إلى نابلس فالضفة الغربية فحيفا ثم كندا. تتبع دعيبس في فيلمها «اللّي باقي منّك» عائلة حمّاد عبر أربعة مفاصل زمنية: النكبة عام 1948، والأعوام 1978، 1988، و2022. يستعيد الفيلم الذاكرة الفلسطينية عبر ملحمة تمتد على ثلاثة أجيال، ولا تقتصر على النكبة والشتات، بل تدعونا إلى جوهر الصراعات الجيلية داخل العائلة الواحدة.

 

 

يعيد الفيلم لهذه الأحداث وجهها الإنساني، فلا تبقى مجرد أرقام أو صور صادمة على الشاشات. لهذا تحديداً، ومع بعض الاستثناءات، يختار العمل الابتعاد عن الدم والمجازر، ليقدّم بدلاً منها شعوراً باليأس العاطفي. في قصة مليئة بالقفزات الزمنية والشخصيات المتغيّرة باستمرار، استخدمت دعيبس الكاميرا الهادئة، من دون جهد عبثي، فالقصة والممثلون يتحدثون عن أنفسهم ولا يحتاجون إلى أي حيل.

 

في الفيلم الحبكة واضحة، والشخصيات محددة، خير وشر بلا تعقيد، وألم لا يغرق في الرمزية، كلّ شخصية تقدّم استجابةً طبيعية، مع القليل من الميلودراما. الهدف هو خلق صورة حميمية ومتعاطفة، واضحة في الشكل، تقليدية في النتيجة، لكنها لا تتخلى عن لحظات الملحمة الشعبية.

 

«اللّي باقي منّك» (رشّحته الأردن ليمثّلها في جوائز الاوسكار، حيث وصل أخيراً إلى القائمة القصيرة) عمل ضخم، يحمل بعض المعضلات الأخلاقية التي كان يمكن تجاوزهـا، لكنه يظلّ واحداً من أبرز الأفلام الفلسطينية في السنوات الأخيرة. فيلم عن الذاكرة، لا كحنين، بل كوثيقة حيّة تعيد تشكيل الحاضر.

 

«مملكة القصب»

حسن هادي

 

في عراق صدّام حسين، تتحوّل الكعكة إلى رمز ولاء مفروض. يروي فيلم «مملكة القصب» (رشّحه العراق ليمثّله في جوائز الاوسكار، حيث وصل أخيراً إلى القائمة القصيرة) رحلة طفلة تُكلَّف بصنع «كعكة الرئيس» وسط الحصار والجوع، لتصبح المهمة مواجهةً بين البراءة والخوف.

 

يستند العمل إلى تجربة شخصية لمخرجه، مستوحاة من طقوس عيد ميلاد صدام التي كانت إلزامية للجميع. تبدأ القصّة في مدرسة ابتدائية في الأهوار، حيث تقع القرعة على لميعة، الطفلة في التاسعة، لتصنع الكعكة. مهمة تبدو بسيطة في أي مكان آخر، لكنها هنا تصبح مسألة حياة أو موت في بلد يرزح تحت الحصار والفقر والندرة.

 

 

«مملكة القصب» أول فيلم عراقي يُصوَّر داخل البلاد ويتناول مباشرة حقبة التسعينيات، زمن القبضة الحديدية والعقوبات الدولية التي دمّرت حياة المواطن العراقي. وبينما كانت الطائرات الأميركية تَقصف، يقدّم هادي أوديسة صغيرة تحمل كل ملامح الرعب الكبير. قصة تبدو طفولية، لكن مبنية على واقع مرعب، حيث يصبح الامتثال وسيلةً للبقاء، والطفولة ساحة مواجهة مع عبث السلطة.

 

ينسج الفيلم جمالياته البصرية بعناية، في تناقض صارخ مع قسوة الواقع. صور النظام، الجداريات، المسيرات، كلها تتسلل إلى المشهد اليومي بلا استئذان. المفارقة أنّ هذا التأنّق الأسلوبي، بلحظاته المرحة وفكاهته السوداء، لا يخفف من حدّة الرسالة السياسية، بل يضاعفها. العنف حاضر في كل زاوية: من هدير الطائرات فوق القرية، إلى الجنود الجرحى على الطريق، والخوف يظلّ خلف كل لقطة.

 

«مملكة القصب»، سينما تكشف وجوه السلطة، حيث يُفرض الفرح بالقوة، وتتحوّل النجاة إلى شكل من أشكال المقاومة. عمل للكبار، لكنه يحتفظ بروح طفولية: فيه جَدّة وديك وكعكة، ولو كانت لصدام.

 

«صوت هند رجب»

كوثر بن هنية

 

كل شيء يبدأ من «صوت هند رجب»، الطفلة الفلسطينية ذات الست سنوات التي علقت داخل سيارة استهدفتها القوات الإسرائيلية بالرصاص أثناء محاولة عائلتها الفرار من القصف في غزة يوم 29 كانون الثاني (يناير) 2024، حيث قُتل عمّها وعمّتها وثلاثة من أبناء عمومتها. كانت هند الناجية الوحيدة، ظلّت تتصل بالهلال الأحمر الفلسطيني طلباً للنجدة.

 

 

تتعقّب المخرجة التونسية كوثر بن هنية تلك اللحظات في فيلم يتجاوز الحدود بين الوثائقي والروائي، مستخدماً صوت هند الأصلي. «صوت هند رجب» عمل غاضب ومؤلم، يجمع بين الشهادة الحقيقية وإعادة البناء، ويمنح السينما قدرةً على التساؤل والصدمة، عبر قصة معروفة ومسموعة، بما أنّ تسجيل صوت هند متاح منذ فترة طويلة على الإنترنت.

 

جوهر الفيلم هو طبيعة التواصل: صوت هند حاضر ومسموع، صوت حقيقي يسمعه الممثلون للمرة الأولى أثناء التصوير، ليصبح عنصراً مركزياً في السرد والشكل. صور وصوت ومشاعر تتراكم على مدى ساعة ونصف الساعة. وبينما يعيد الفيلم بناء الواقع، يطرح سؤالاً عن كيفية رؤيتنا لهذا الواقع وسرده وتصويره.

 

«يونان»

أمير فخر الدين

 

«يونان» فيلم يُطهى على نار هادئة، يمنح تجربةً روحية أقرب إلى الصوفية، شرط أن يُستقبل بالصبر والانتباه والكرم، مع إبقاء الحواس كلّها يقظة. هو العمل الثاني لأمير فخر الدين، ضمن ثلاثية عن الوطن والبيت والغربة التي بدأت بـ «الغريب» (2021).

 

 

منذ المشهد الأول، نرى منير (جورج خباز)، رجل عربي يعيش في هامبورغ، يعاني من نوبات هلع وضيق في التنفس. يظن أنّ مشكلته جسدية، لكنه لا يجد تفسيراً طبياً، فينصحه الأطباء بالابتعاد قليلاً عن محيطه. لكنّ الابتعاد بالنسبة إليه ليس حلاً، فهو غريب ووحيد أصلاً.

الحزن في «يونان» ساحق، يكاد يشلّ الحركة. يصوّره فخر الدين بأناقة قاسية، عبر الضوء والظلال، عبر وجوه وأجساد متكسّرة وعيون مثقلة.

 

الفيلم واثق من نفسه، بعيد من السائد في السينما العربية. «يونان» عمل مهيب، يشبه الحمى التي تضرب الإنسان بلا سبب. هو ثقل الوجود، ذاكرة مليئة بالألم والحنين إلى وطن، إلى مكان، إلى روح، إلى أمّ. ومع كل هذا، يترك لنا احتمالاً صغيراً أنّ العيش لا يزال ممكناً لمنير.

 

«عائشة لا تستطيع الطيران»

مراد مصطفى

 

فيلم بأسلوب غير تقليدي، يُقدَّم من زاوية غير مألوفة. عمل عن البؤس والبقاء، وبطلة هاربة من حرب السودان، عالقة في القاهرة بين عمل شاق كخادمة ومقدّمة رعاية، وبين استغلال أرباب عمل وزعيم عصابة يجبرها على السرقة.

 

 

تصوير مصطفى الكاشف يترجم هذا التناقض: مدينة خانقة بألوان باهتة، حياة ليلية باردة وجوفاء، حتى الحب يبدو محكوماً بالفشل. المشهد المتكرر لعائشة على سريرها، ساقاها ممدودتان على الحائط، يضاعف إحساسها بالحصار ورغبتها في الطيران بعيداً، لكنها تبقى محاصرة. الكاميرا تتخبّط مثلها، لا تتركها تخرج من الإطار، لتصبح امتداداً لوجودها.

 

وسط هذه الفوضى، يختار المخرج المصري مراد مصطفى أن يوقف إيقاع السرد بانقطاعات متكررة، تُضاعف الإحساس بالمعاناة. ومع امتزاج أحلام اليقظة الكابوسية بالواقع، يدخل الفيلم في عالم رعب الجسد والهلوسة: نعامة ضخمة تظهر في الليل، طفح جلدي يلتهم الجسد، مقاطع مقززة من حيوانات متعفّنة، وأكوام لحوم بشر. كثافة درامية خانقة، صنعتها بوعي اختيارات المخرج في التعامل مع الجسد كمساحة للنفور والقلق.

 

لحظات الفرح تُصوَّر بلقطات مقرّبة لكن مقيّدة، كأنّ السعادة لا تعيش إلا داخل حدود الاختناق. وعندما يفتح الفيلم على لقطات واسعة، يمزج الخيال بواقعها اليومي، ليكشف الأهوال التي تواجهها.

في التناقض بين القسوة والحساسية، بين الجسد الممزق والعاطفة المكبوتة، يقدّم مراد مصطفى فيلماً مؤثراً، مدعوماً بأداء بوليانا سيمون الذي يجسّد الألم والثبات في آن. يتجاوز العمل موضوع الهجرة ليطرح أسئلة عن الانتماء، الرغبة في أن يُرى المرء، ووحدة المهمشين الذين يجرؤون على الحلم.

 

«هجرة»

شهد أمين

 

يقدّم الفيلم الروائي الثاني لشهد أمين، حكايةً عن تمكين الذات واكتشافها، بأسلوب حميمي يتابع شخصياته وهي تصارع ماضياً مضطرباً وحاضراً مثقلاً ومستقبلاً غامضاً. ما يبدأ كرحلة منتظرة، يتحوّل إلى مسار أكثر تعقيداً، عائلياً وشخصياً وعاطفياً.

 

 

يروي الفيلم قصة نساء يحاولن التأقلم مع عالم همّشهن طويلاً. ما يبدو كرحلة حج، يتحوّل إلى تجربة تكشف مسارات جديدة، رحلة موازية عبر المملكة ومناطقها وشعبها. على الطريق، تبدأ الجدة والحفيدة برؤية بعضهما بشكل مختلف، لتتعرف كل واحدة إلى ماضي الأخرى ومستقبلها المحتمل.

 

«هجرة» عمل متقن بصرياً ومصاغ بعناية، مشهده الختامي مهيب، وقوته تكمن في وجوه أبطاله التي تنقل التوتر والقلق والمشاعر القريبة من الشاشة. وكما في أفلام الرحلات التي تحمل عنصر التشويق والسباق مع الزمن، تظهر عقبات وتشابكات كثيرة. وفي مجتمع تواجه فيه النساء تحديات مضاعفة، تصبح هذه العقبات أكثر دقة وتعقيداً. هنا يأتي منظور شهد أمين الأنثوي والنسوي أحياناً كصوت بارز في هذا السياق.

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١-الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

في ختام موسم”يوم اللغة العربية العالمي”:نحو إعلان”عام اللغة العربية ربيع 2026 -ربيع 2027″

      ا.د. جورج جبور صاحب فكرة. يوم اللغة العربية التي انطلقت من جامعة حلب في 15 اذار 2006.       قال أحدهم ...