يسدل العام ستاره على أشهر حافلة بالكوارث المناخية الدامية والمكلفة. وبعد حقبة غير مسبوقة من التدهور المناخي المتفاقم، تكسّرت فيها معظم الأرقام القياسيّة السلبيّة خلال ثلاثة أعوام، يتواصل التخبّط العالمي في مواجهة الأزمة بفعل عوامل عدّة
يسدل العام ستاره على أشهر حافلة بالكوارث المناخية الدامية والمكلفة. وبعد حقبة غير مسبوقة من التدهور المناخي المتفاقم، تكسّرت فيها معظم الأرقام القياسيّة السلبيّة خلال ثلاثة أعوام، يتواصل التخبّط العالمي في مواجهة الأزمة بفعل عوامل عدّة، على رأسها ما يصفه خبراء البيئة بجريمة إنكار وجود مشكلة مناخيّة أساساً، كما يدّعي رأس الإدارة الأميركية، دونالد ترامب.
وبين اعتبار ما يحدث بـ«الخدعة»، وغياب الإرادة السياسيّة لدى الآخرين في رسم خريطة طريق تُنقذ ما أمكن قبل فوات الآوان، يرزح الكوكب، بمكوّناته جمعاء ومن بينها البشر، تحت وطأة الآثار الشديدة للتغيّر المناخي من دون أي بصيص أمل في توقّف الخراب المتسارع، أو نجدة أمميّة لشعوب الدول النامية المتروكة لمصيرها في مواجهة غضب الطبيعة لما ارتكبته أيدي الأثرياء. فهل يُعوّل على نظام عالمي متهالك لإصلاح أزمة تسبّب فيها بنفسه؟
جحيم الأرض
في استمرار للمسار المتأزّم خلال العامين الماضيين، تواكب عام 2025 مع تسجيل سلسلة درجات حرارة استثنائية «مقلقة». ووفق «المنظمة العالمية للأرصاد الجوية»، الوكالة الأممية التابعة للأمم المتحدة والمعنيّة في رصد التغيّرات المناخية، سجّل العام الحالي نفسه ضمن ثاني أو ثالث أكثر الأعوام دفئاً على الإطلاق، علماً أنّ السنوات الممتدة من 2015 إلى 2025، سجّلت أكثر 11 سنة دفءٍ في سجلات الرصد التي تمتد على 176 سنة، مع تبوُّؤ السنوات الثلاث الماضية المراكز الأولى في السجلات.
تتكلّم الأرقام القياسيّة عن نفسها في تأكيد شدّة الاحتباس الحراري، مع دقّ معدّلات الحرارة ناقوس الخطر المرسوم من قبل المجتمع العلمي والأمم المتّحدة، والمتوافق عليه من قبل حكومات العالم في ما يُعرف بـ «اتفاق باريس المناخي»، بضرورة تجنّب ارتفاع معدّل درجات الحرارة إلى 1.5 درجة مئوية أعلى من معدّلات ما قبل الثورة الصناعية.
لكنّ التقرير الأممي للمنظّمة المناخية يشير إلى أنّ النصف الأوّل من عام 2025، بلغ ارتفاع متوسط درجات الحرارة فيه ما يزيد على 1.42 درجة مئوية، مع هامش تذبذب للرقم بين 0.12 درجة مئوية زائداً أو ناقصاً.
وفي معرض محاولة معرفة نتائج تجاوز الاحترار عتبة 1.5 درجة مئوية، حتى لو بشكل مؤقّت، تُحذّر «الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ» من أنّ الآثار ستكون وخيمة وغالباً غير قابلة للعكس. وتشمل التغيّرات المناخية حدوث عواصف أكثر شدّة، وتزايد موجات الحرّ وموجات الجفاف. في الوقت نفسه، سيؤدّي الاحترار العالمي إلى أمطار أكثر غزارة وارتفاع سريع في مستوى سطح البحر بفعل ذوبان الجليد خصوصاً في القطب الشمالي.
ورغم الارتفاع الجنوني خلال الأعوام الأخيرة لدرجات الحرارة، والسلسلة الطويلة من الارتفاع القياسي في الفترة الممتدة على مدى 26 شهراً، من حزيران (يونيو) 2023 إلى آب (أغسطس) 2025، إلا أنّ هذه الحقبة ترافقت أيضاً مع ظروف استثنائية أبرزها ظاهرة «النينو» التي امتدت منذ عام 2023 وصولاً إلى مطلع العام الحالي وفقاً لتقرير «الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي». وتعدّ ظاهرة «النينو» حدثاً مناخياً طبيعياً يتكرّر كل سنتين إلى سبع سنوات، ويتخلّله تذبذب في درجة حرارة مياه سطح المحيط الهادئ، وما ينجم عن ذلك من ارتفاع في معدّلات الحرارة في نواحي عدّة من أصقاع الأرض.
عامٌ آخر من التدهور
لا تقف حدود الآثار المترتّبة على الاحتباس الحراري عند حدّ ارتفاع معدّلات الحرارة، إنّما تصل نيرانها إلى جوانب عدّة من النظام البيئي الشامل. في هذا السياق، تلفت «المنظمة العالمية للأرصاد الجوية» إلى أنّ عام 2024 سجّل رقماً قياسياً في متوسط سطح البحر العالمي السنوي، وأشارت البيانات الأوليّة إلى انخفاض طفيف منذ بداية عام 2025 لكن مع ربط هذا السلوك المؤقّت بظهور ظاهرة «النينا» المناخية الطبيعية، وهي نقيضة «النينو».
تشمل التغيّرات المناخية حدوث عواصف أكثر شدّة، وتزايد موجات الحرّ والجفاف
أمّا الجليد البحري، ليس بالأفضل حالاً، إذ إنّ مساحته في القطب الشمالي سجّلت في آذار (مارس) الفائت 13.8 مليون كيلومتر مربع، وهو أقلّ مستوى مسجّلاً في سجلات الأقمار الاصطناعية. وبالنسبة إلى القطب الجنوبي، يُعدّ مستوى الجليد البحري فيه ثالث أدنى مستوى مسجّلاً، 2.1 مليون كيلومتر مربّع في شباط (فبراير) المنصرم.
تأتي هذه الآثار المُرعبة، التي ستترتّب عنها نتائج وخيمة بدورها على المدى الطويل، في ظلّ تسجيل تركيزات الغازات الدفيئة الثلاثة الرئيسية في الغلاف الجوي، ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز، مستويات قياسية في عام 2025 للعام الثاني على التوالي.
الإنسان يُعاني مع كوكبه
تنعكس آثار التغيّر المناخي بشكل مباشر على الإنسان. لكن على عكس مكوّنات الطبيعة التي تعمل جاهدة على استعادة توازن المناخ، أظهرت الدراسات العلمية أنّ الظواهر الجويّة المتطرّفة التي حدثت في عام 2025 ارتبطت بشكل مباشر بالاحترار الحراري البشري المنشأ.
وعلى غرار الأعوام الماضية، احتلّت بعض الأحداث الكارثية مكانها ضمن الأسوأ على الإطلاق، وعلى رأسها، إعصار «ميليسا» من الفئة الخامسة، الذي ضرب جامايكا في 28 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت متسبّباً في أضرار هائلة تُعادل قيمتها 41 في المئة من الناتج المحلّي في البلاد.
أمّا الغابات، رئة الكوكب والمحارب الأوّل في معركة تنظيف الهواء من ثاني أكسيد الكربون، فهي شهدت بدورها أحد أسوأ الأحداث منذ عقود، إذ أفادت وزارة البيئة وتغيّر المناخ الكندية أنّ العام الحالي «سجّل ثاني أسوأ موسم حرائق غابات في البلاد على الإطلاق، حيث احترق أكثر من 89 ألف كيلومتر مربّع». إلا أنّ المصيبة الأكبر حدثت في كانون الثاني (يناير) الماضي، عندما ضربت حرائق لوس أنجليس الشهيرة الغابات الشاسعة وامتدت إلى الكتل العمرانية، واعتُبرت الأكثر تكلفة في تاريخ الولاية.
وفي الولايات المتحدة أيضاً، عانت البلاد من عدد قياسي من الفيضانات المفاجئة في 2025، بما في ذلك الفيضانات القاتلة التي ضربت ولاية تكساس في تموز (يوليو) الفائت. مع الإشارة إلى أنّ الكوارث المناخية والطقس في البلاد، سجّلت آثارها كلفةً قياسيّة مع ترقّب صدور البيانات الرّسمية بهذا الشأن في أوائل عام 2026.
مرتكبو الجريمة
أمام التحديّات المناخية المتفاقمة، تتراجع الحماسة الدولية، ولا سيّما لدى الدول الكبرى المهيمنة على موارد الأرض، التي تتحمّل مسؤولية الغالبية الساحقة من الانبعاثات الكربونيّة. لكن تشقّ بعض المحاولات دربها نحو تعديل ما تيسّر من الموازين الطبيعيّة المختلّة بفعل فاعل. وفي هذا السياق، رصد «معهد الموارد العالمية» المتخصّص في الأبحاث، قفزةً لافتة في القطاع الخاص خلال العامين الأخيرين في مجال تمويل محاربة التغيّر المناخي، مع تسجيل مستوى قياسي بلغ 1.3 تريليون دولار، مدفوعاً من المستهلكين والشركات والمستثمرين، خصوصاً في الصين وأوروبا الغربية.
في موازاة ذلك، خرجت إلى المشهد تقنيّات ناشئة، كالهيدروجين الأخضر وآلات إزالة ثاني أكسيد الكربون، لكنّها لم تبلغ مرحلة الانتشار الواسع للعب دور فاعل في تعديل موازين الأزمة.
أمّا السيارات الكهربائية، فرغم استمرار نموّها عالمياً، إلا أنّ الفضل الأكبر في ذلك يعود إلى السوق الصينية، كمصنّع طوراً ومستهلك تارة. فقد تراجعت وتيرة شراء هذه الفئة من المركبات في أسواق عالميّة رئيسية مثل أوروبا والولايات المتحدّة، نتيجة تقليص الدّعم وضعف البنية التحتية وفقاً للمعهد البحثي. بين الأجندة السياسية للبيت الأبيض وباقي أفرقاء حلف «الناتو»، وانهيار النظم المناخية والتوازن البيئي الدقيق، علاقة سببيّة.
ووفقاً لمعطيات المنظّمات البيئية، ولمواقف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ولموازنته «الجميلة الكبيرة» التي أقرّت خلال العام الجاري، لا مكان لسياسات إدارة سلفه، جو بايدن، في دعم الطاقات البديلة. على النقيض تماماً، ذهب ترامب إلى دعم الاستثمار من جديد في مجال النفط والغاز، مع تنديده الشديد بأي مطالعة لها علاقة بأزمة التغيّر المناخي. وبينما يُجاهر الطرف الأميركي في اصطفافه المعادي للمناخ، تحاول أوروبا التصدّي، إعلاميّاً، كقائد للجهود العالميّة في هذا المجال يُبالي في مصير مئات الملايين المتضرّرين من الأزمة، خصوصاً في البلدان النامية التي لا حول ولا قوّة لها في مجابهة التبعات.
ولا تزال شعوب هذه الدّول في انتظار أن تسمع الدول المقتدرة، منها الأوروبيّة، صرخات الأمم المتحدة على مدى سنوات بضرورة نجدتها في المعركة المناخيّة الضاغطة. لكنّ القارّة العجوز، غارقة في وحل الحروب من جديد على جبهتها الشرقية، بما أسهم في تبديل أولويّات قادة القارّة بشكل جذري. وعلى هذا الصعيد، وبعد ثلاثة أعوام من الجحيم المناخي، خرجت دول القارّة لإعلان خطّتها البيئية الجديدة الشهر المنصرم بأسقف متدنيّة.
ورغم أنّ الخطة تضمّنت وعداً مكرّراً بخفض الانبعاثات بنسبة 90 في المئة بحلول عام 2040، إلا أنّ بنداً بمرتبة «لُغم» اختبأ بين سطور الاتفاقيّة، إذ تتيح لأي دولة من أعضاء الاتحاد الأوروبي أن تتراجع عن التزاماتها المناخية وفقاً لمصالحها القومية والاقتصادية والاجتماعيّة. أرادت أوروبا، عبر توقيت إظهار الخطّة لا مضمونها، الانضمام إلى القمّة العالميّة المناخية السنوية، «مؤتمر الأطراف»، وبيدها خطّة عمل تُلقي بها الحجّة على باقي الزعماء العالميّين.
لكن على غرار النسخة الماضية في أذربيجان العام المنصرم التي وُصفت بغير الجديّة في ظلّ امتناع الدول عن تقديم أي التزامات بسبب فوز ترامب في الانتخابات الرئاسيّة الأميركية حينها، ارتقت قمّة البرازيل الشهر الماضي إلى ذات المرتبة من «اللامبالاة». في هذه النسخة من القمّة المناخية، أكّد ترامب هواجس القلقين من الحكومات المترقّبة، إذ وصلت رسالته بوضوح تام إلى كل أرجاء القمّة الأمازونيّة، بعدما امتنع عن الحضور إليها شخصياً، بل رفض أيضاً إرسال أي مسؤول رسمي أو ممثّل عن إدارته، في مقاطعة كاملة شكلاً ومضموناً.
أمّا مخرجات القمّة بمن حضر، هي الأخرى لم ترقَ إلى طلبات الأمم المتحدّة، ورغم الزيادة الطفيفة في تمويل جهود محاربة التغيّر المناخي، إلا أنّها لم تتضمّن آليات واضحة تُلزم الدول في التمويل. في 2025، لم تتواصل الأزمة المناخية فقط، بل استمرّ احتضار النظام العالمي بأكمله.
في 23 تموز (يوليو) الماضي، أصدرت «محكمة العدل الدولية» فتواها الاستشارية المنتظرة بأنّ على الدول الالتزام بالقانون الدولي بشأن تغيّر المناخ «بأقصى قدر من الطموح»، مع تحمّل مسؤوليّة التعويضات في حال الفشل في منع إلحاق ضرر كبير في النظام المناخي. وكما استهزأ مجرم الحرب، وفقاً لمعايير المحكمة، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بمقرّراتها، سار ترامب على الخطى نفسها بطموح للفوز بلقب «مجرم المناخ».
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الاخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
