آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » معجم الدوحة التاريخي حارسٌ للغة العربية وذاكرتها

معجم الدوحة التاريخي حارسٌ للغة العربية وذاكرتها

 

لم يكن إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، يوم أمس، حدثاً ثقافياً عادياً، بل لحظة تتويج أقرب إلى الحلم. حلمٌ راود خبراء وباحثين ولغويين عرب على مدار أجيالٍ متعاقبة إلى أن حقّقه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بدعمٍ كاملٍ ومباشرٍ من أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.

 

ولكن، ماذا يعني هذا المعجم؟ ماذا يُضيف إلى المعاجم السابقة؟ ما دوره في زمن السرعة والرقمنة وكيف يمكن أن يستفيد منه شباب اليوم؟

 

نبدأ بهذه الأسئلة البديهية كمدخلٍ إلى فهم هذا المشروع الضخم بكل حيثياته. وبما أننا ذكرنا الرقمنة، سنقدّم الجواب بالأرقام أولاً. المعجم يضمّ مليار كلمة، و300 ألف مدخل معجمي، و10 آلاف جذر، و10 آلاف مصدر في البيبليوغرافيا. هذه الأرقام هي بطاقة تعريف عن عملٍ هائلٍ يرصد بدايات اللفظ وتحولاته الدلالية عبر 20 قرناً.

 

معجم الدوحة التاريخي هو أكثر من مدوّنة وأكثر من مجرد كتابٍ لغويّ يُضاف إلى مكتبتنا العربية. إنه يخطّ سيرة حياة اللغة العربية وتطورها، وهذا ما يجعله مشروعاً أمميّاً نهضويّاً يهمّ كلّ متحدث بلغة الضاد.

 

نقول هنا “سيرة حياة” لأنّ اللغة، مثل الإنسان، لها حياة كاملة، بكلّ أبعادها وتتطوراتها. هي تتطور وتتكاثر وتتسّع. قد تعرف لحظات قوة وهيمنة وسطوع مثلما يمكن أن تعيش لحظات ضعفٍ وركودٍ وخفوت.

 

بطبيعة الحال، المعاجم لا تصنع اللغة ولا تُضيف إليها، وانما تؤرّخ للغات التي يستخدمها البشر في كل مكان وفي كل زمان.

 

 

 

“المعجم الأضخم عربياً”

فكرة المعاجم لم تكن حاضرة قبل القرن التاسع عشر الميلادي لأن الأدوات المطلوبة لتنفيذها لم تكن متوافرة أصلاً. ولعلّ الألمان هم أول من بدأ فكرة المعجم الذي استغرق تنفيذه نحو ثمانين عاماً، قبل أن يأتي المعجم الانكليزي والمعاجم الأخرى.

 

أما العرب فكانت لهم محطات كثيرة بدأت مع مجمع اللغة العربية في القاهرة (كان يُعرف بمجمع فؤاد الأول سنة 1932) وكان من أعضائه الأوائل المستشرق الألماني أوغست فيشر، لكنه تعثّر ليظهر بعده “المعجم الكبير” والمعجم التونسي ومعجم فاس ومعجم “المرجع” للشيخ عبدالله العلايلي، والمعاجم التاريخية للمصطلحات وغيرها…

 

أما معجم الدوحة التاريخي فولدت فكرته عام 2011 وبدأ العمل على تنفيذه في 2013، ولعلّ أهميته – وفرادته – تكمن في كونه أول معجم عربي شامل يؤرخ لألفاظ عربية ومعانيها، بل إنه يتتبّع الكلمة العربية منذ أول ظهورها حتى استخداماتها الحديثة الموثقة. وهو يأتي في هذه اللحظة بالذات ليكون بمثابة حارس للغة العربية وذاكرتها.

 

وليس عبثاً أن يتزامن الاعلان عن اكتمال المعجم مع اليوم العالمي للغة العربية لصبح للغتنا معجم يمكن وضعه في مصاف أهم المعاجم التاريخية عالمياً.

 

ومع أنه ليس الأوّل عربياً، لكنّ معجم الدوحة التاريخي هو الأضخم والأحدث والأكثر استجابةً للمعايير الحديثة الخاصة بالمعاجم التاريخية. وهو يستحقّ تسميته بالتاريخي نظراً إلى تتبعه الألفاظ العربية منذ أقدم العصور وحتى العصر الحديث.

 

مهمّة شاقةّ

لم يكن إنجاز هذا المعجم بالمهمّة السهلة، بل كان أشبه بمغامرة محفوفة بالكثير من الأخطار والتحديات التي حالت دون تنفيذ المشروع قبل أن تبنّاه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ويدعمه أمير قطر رسمياً.

 

ثلاثة عشر عاماً هو عمر الرحلة التي تطلبها إعداد المعجم، وهو زمن قياسي مقارنةً بالوقت الذي استُغرقه تنفيذ معاجم اللغات الأخرى، ومن أبرزها معجم اللغة الانكليزية (نحو 70 عاماً). وإذا أردنا أن ندرك صعوبة هذا العمل الشاق، يمكن العودة إلى فيلم The Professor and The Madman” (2019)”، وفكرة هذا الفيلم هي أول ما يخطر في بالك وأنت تسمع كلمات الباحثين المشاركين في تنفيذ معجم الدوحة، بكل ما عاشوه خلال تلك الرحلة الشاقة.

 

فيلم “الأستاذ والمجنون” (بطولة ميل غيبسون وشون بن) يسوقك نحو تفاصيل إعداد أكبر معجم للغة الإنكليزية، المعروف بمعجم أكسفورد. وبعد فراغك من مشاهدته، قد تصل إلى حقيقة واحدة: اللغة هي الإنسان. فالفيلم في عمقه ليس عن المعجم ولا عن الألفاظ وإنما عن اللغة كفعل انسانيّ أو حتى وجوديّ.

 

إذن، لا ينبغي حصر اللغة في كونها أداة تواصل لأنها في الحقيقة هي المرادف للإنسان نفسه. فيها تكمن الهوية والفكرة والنهضة والقدرة على البقاء والتطور والابتكار…

 

مدونة نصّية

إذا راقبنا عمل المعاجم العالمية، نجد أنها تقوم غالباً بتحديثات سنوية لمواكبة الالفاظ الجديدة التي يمكن أن تستجد، وهنا قد يخطر لنا سؤال ما إذا كان معجم الدوحة التاريخي سيهتم بإضافة تحديثات واستدراكات جديدة.

 

 

وعن هذا السؤال، تُجيب الباحثة المشاركة في المعجم الدكتورة زينة سعيفان: “اكتمال معجم الدوحة لا يعني وقف التحديثات والتصويبات، بل يعتزم المركز العربي استكمال التحديثات والاضافات كما في سائر المعاجم التاريخية عبر فريق عمل مخصص لهذه الغاية”. وتتابع: “إذا ظهر معنى جديد لكلمة قديمة، واستقرّ في الاستعمال المكتوب سيوثقه المعجم بإضافة معنى جديد للفظ الموجود ضمن التسلسل التاريخي. وإذا وُلد مصطلح جديد (مولَّد أو معرَّب) فالمعجم لا يتعجل إدخاله، بل ينتظر شيوعه وثباته وتوثقه في نصوص معتبرة مثل كتب، صحافة، دراسات، ترجمات رصينة…”.

 

واللافت أنّ المعجم لن يكون منفصلاً عن الزمن الحالي وطبيعته الرقمية، بل أكد المسؤولون عنه أنه “منذ الإعلان عن انطلاقه عام 2013، قدم رؤية حوسبية متكاملة تستند إلى أحدث ما وصلت إليه الصناعة المعجمية الرقمية من مناهج وأدوات”.

 

من هنا، ولدت المنصة الحاسوبية لمعجم الدوحة التاريخي كاستجابة لهذا التصوّر العلمي ضمن بيئة رقمية منظمة. وأمام هذا المشروع، يبقى السؤال الأهم: هل هو موجّه للباحثين واللغويين فقط؟ أم أنّ الشباب العربي يمكن أن يستفيد منه أيضاً؟ الباحثة سعيفان أجابت: “المعجم ليس ترفاً أكاديمياً ولا إضافة أرشيفية إلى كتب التراث اللغوي العربي. فالمعجم التاريخي يقدّم سيرة ذاتية للكلمة لا تعريفاً واحداً هو يعيد بناء الثقة باللغة وفهم منطقها الخاص في رحلة تطور المعاني وتشعبها وتداخلها. وفيه اكتشاف لفصاحة الكثير من الكلمات التي يظنها شباب اليوم انها تُستخدم من باب الدارجة او العامية”.

 

وتُضيف: “يكشف معجم الدوحة التاريخي للشباب كم أن اللغة العربية هي لغة حيّة ويُظهر مدى قابلية اللغة للتوسع والتكيف والتغيّر. هذا يحرّر الشاب من فكرة أنّ العربية لغة لا تصلح لهذا الزمن. والمهم أيضاً أنّ المعجم يساعد وظيفياً في مجالات مهنية ومعرفية مرتبطة باللغة. فهو يخدم صُنّاع المحتوى والكتّاب الشباب (من يكتب مقالاً، رواية، قصيدة، سيناريو) ومن يصنع محتوى ثقافياً أو دينياً أو تاريخياً. كما يتيح بناء أبحاث لغوية او مصطلحية ومراجعة تطور مصطلحات مجال معين مثل الطب أو الهندسة وسواهما. فالمعجم يفيد ايضا في استخلاص معاجم تخصصية تخدم القطاعات المعرفية والتخصصات”.

 

المعجم إذاً، بحسب سعيفان، أداة وعي لغوي وفكري عميق ومفيد لمطوري الذكاء الاصطناعي المرتبط بقواعد البيانات العربية المهيئة، سواء كانت قواعد بيانات كبرى عامة أم صغرى أي متخصصة في مجال معرفي معيّن.

 

معجم الدوحة التاريخي للغة العربية هو فعلاً تاريخيّ في مواكبته للألفاظ منذ أقدم العصور وحتى العصر الحديث. إنه هدية تقدّمها الدوحة الى شعوبنا العربية قاطبةً، ايماناً منها بجمالية لغتنا وقيمتها وقدرتها على النهوض بنا، كما فعلت في عصورٍ سابقة، يوم كانت العربية هي لغة الحضارة والنهضة والتنوير.

 

 

أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

مسرح خيال الظل وتطوره التاريخي في اتحاد الكتاب بطرطوس

مها يوسف: مسرح خيال الظل من أقدم الفنون التي أسهمت في تشكيل الوعي المسرحي العربي، إذ جمع بين المتعة البصرية والنقد الاجتماعي، وعبر عن هموم ...