تحرير وترجمة: د.إبراهيم إستنبولي
وَداعًا، صديقي،
بِلا كلامٍ ولا سلامْ،
لا تحزنْ ولا تُقطِّب حاجبَيك.
ليس جديدًا أن نموتَ في هذهِ الدنيا،
وأنْ نعيشَ، بالطبع، ليس جديدًا أكثر.
قبل ١٠٠ سنة بالتمام والكمال، وتحديدًا في 28 ديسمبر/ كانون الأول من عام 1925، راحت هذه الكلمات تدوّي مثل قصف الرعد في جميع أرجاء روسيا معلنة عن سقوط نجمٍ هائل ومنير في سماء الشعر الروسي…
تلك كانت آخر كلمات كتبها الشاعر الروسي الوسيم وصاحب القصائد المفعمة بالروح الروسية، العابقة برائحة القرية الروسية والغنية باللوحات الخلابة للسهوب والغابات… سيرغي يسينين.
لقد كان سيرغي يسينين أكثر الشعراء “روسيةً” – حسب تعبير يفغيني يفتوشينكو. إذ ما مِن شاعر روسي آخر خرجت قصائده من حفيف أشجار البتولا، من النقر الخفيف لقطرات المطر على السطوح الخشبية لأكواخ الفلاحين، من صهيل الخيول في السهوب المغطاة بالضباب في الصباحات، ومن تأرجح الأقاحي والأغاني المعلّقة على أسيجة القرية الروسية كما هي الحال عند يسينين.
كانت حياته مفعمة بالحنين، بالعشق، وبالخيبات… استقبل الثورة البلشفية بإيجابية، ولكن ببرودة وعلى طريقته، بحيث أنه ظلَّ متمسكًا بكلِّ ما هو روسي. وبالرغم من النجاح الهائل الذي حققه، والحظوة الكبيرة التي نالها – فقد بقي يحن إلى الروح الروسية الغنية بالجمال وبالبساطة، اللتين طالما تغنّى بهما في أشعاره.. ولم تستطع روحه مقاومة الكآبة الشفيفة التي هبطت عليه، مما اضطره إلى أن يضع حدًّا لمعاناته… لينتحر حسب الرواية الرسمية!؟.
ولكن الدراسات اللاحقة أثبت عكس ما أعلنته الدعاية البلشفية بشأن وفاة الشاعر. وهذا ما كان قبل حوالي عقدين من الزمن محور ما دار عنه معرض الصور الفوتوغرافية الذي أقيم في موسكو بعنوان “حياتي الطائشة…” والذي كان مكرّساً لمرور 110 سنوات على ولادة يسينين… وهناك قرائن وأدلّة تؤكد أن يسينين لم ينتحر، وإنما قُتِل…قتلته المخابرات البلشفية. وهذه الفرضية تلقى قبولاً في أوساط الرأي العام الروسي أكثر مما تلقاه فرضية الانتحار الشائعة والتي كانت قد وردت في الأدبيات التاريخية الرسمية.
وكان المحقق في فرع الأمن الجنائي في موسكو إدوارد خليستالوف قد قام وبمبادرة شخصية منه بإجراء تحقيق حول نفس القضية على نفقته الخاصة… وأمضى آخر سنوات عمره في محاولة من أجل الكشف عن الحقيقة…
وللعلم، كان الشاعر سيرغي يسينين قد وجد ميّتًا في الغرفة رقم خمسة من فندق “أنغليتير” وذلك بتاريخ 28 كانون الأول من عام 1925… وبعد أن تم خلع الباب وجدوا جثة الشاعر معلقة بحبل إلى أنبوب التصريف الصحي تحت السقف مباشرة… كما وجدوا على الطاولة ورقة كتبت فيها تلك الكلمات التي وردت في بداية هذه المقالة. وتقول الرواية الرسمية أن الأبيات مكتوبة بالدم. وهذا ما أكده الشاعر الشاب آيرليخ الذي كان من بين أوائل من دخلوا إلى الغرفة. لم يجر تحقيق في حينه، بل اكتفت سلطات المدينة بالتقرير الذي رفعه الشرطي المناوب في الحي نيكولاي غاربوف.
والسؤال هو: من كانت له مصلحة في موت يسينين؟
كان يسينين يتجنب دائمًا الخوض في السياسة، وقد كانت حياته ملتهبة مثل الكحول المشتعل على الثلج. وحسب وجهة نظر معارضي الفرضية الرسمية، تم التخلص من يسينين بسبب مشاعره وآرائه المعادية للسلطة السوفييتية وبسبب أشعاره ذات الطابع القومي.
جاء في ضبط الشرطة: “في دائرة الفرع الثاني للشرطة، في فندق “انترناسيونال”، انتحر عن طريق الشنق المواطن ديسينين سيرغي،30 سنة. تم نقل جثته إلى مشفى البروفيسور نيتشاييف”. حتى أنهم كتبوا كنيته بشكل غير صحيح! فكتبوا ديسينين وليس يسينين.
كما إنه من المعروف أن والدة الشاعر حضرت جنازته، وكانت ترغب في أن يتم دفن الجثة وفقا لتقاليد الكنيسة، وأن تذرو التراب بيديها على قبره على شكل صليب. كما إنها أرادت دعوة قس لكي يقيم صلاة الجنازة عن روحه. لكنهم لم يسمحوا بكل ذلك. بل أقاموا له جنازة رسمية باهرة وخالية من أية مظاهر دينية. ومع ذلك فقد أقام أهله وأقرباؤه الصلاة عن راحة روحه في مسقط رأسه غيابيًا. علمًا أنه لا تجوز الصلاة على مَن قضى منتحرًا!
هكذا انتهت مسيرة شاعر صاحب قلب مرهف وروح معذبة ورقيقة حدَّ اللامعقول، كما هي رحبة وخلابة سهوب روسيا وغاباتها وكما هي رقيقة نسمة ربيعية تعبر فوق الأرصفة وأشجار الصفصاف في مساء ساحر ولكنه كئيب…
……
ومع ذلك، لتبقَ مباركة إلى الأبد
تلك الليالي الليلكية في الأرض.

(أخبار سوريا الوطن 2-الكاتب)
syriahomenews أخبار سورية الوطن
