زاهي وهبي
تتصاعد على الشاشات اللبنانية ظاهرة استضافة العرّافين والمنجّمين بصفات تحليلية، في سياق إعلامي يستثمر القلق العام. تُقدَّم التكهّنات السياسية والفلكية كلغة تفسير للواقع، وسط تواطؤ مهني يخلط بين التحليل والمعرفة الزائفة، ويحوّل الخوف الجماعي إلى سلعة يومية
في هذه الليالي الباردة مع نهاية كانون وبداية آخر، حيث تختبئ نجوم بيروت خلف سُحب القلق، تتحول شاشاتنا إلى نوافذ «سحرية» يطل منها منجمون وعرافون. لا يحتاجون إلى كرات بلورية ولا أوراق تاروت، فمادتهم الخام هي أحلامنا المنهكة ومخاوفنا المعلقة بين السماء والأرض. يلبسون بدلاتهم الأنيقة، وفساتينهم المزركشة، ليهمسوا في آذاننا بكلمات كالدخان: «أرى شتاءً غاضباً وصيفاً حارقاً»، «ألمح دخاناً أسود فوق المنطقة» وسواهما من جمل سائلة مائعة. إنهم كهّان العصر الحديث، يقيمون طقوسهم اليومية على مذبح المشاهدات والإعلانات.
سوق النبوءات الرخيصة
إلى بيوتنا وغرفنا يدخل هؤلاء الكهّان كالضيوف الدائمين. يجلسون بيننا على مائدة العشاء، ينثرون نبوءاتهم كملح على جراح الوطن. الشاشة لم تعد نافذة على العالم، بل صارت مرآة تكبر هواجسنا، ثم تبيعها لنا بثمن بخس. لغة الفضائيات اللبنانية تتشابه اليوم – تلك اللفتات الواثقة، تلك النبرة التي لا تقبل الجدل، تلك العيون التي تتطلع إلى مكان بعيد كأنها ترى ما لا نراه.
إنه سوق للمستقبل، سوق للمجهول. البائع لا يخسر شيئاً، فسلعته كالهواء – إن صدقت نبوءةٌ واحدة بين مئة، انطلقت التكبيرات، وإن أخطأت، ذهبت مع الريح. والمشتري يدفع من صحته النفسية، من قدرته على التمييز، من آخر بقايا ثقته بأن للحياة معنى يمكن استشفافه بالعقل لا بالغيب.
والأخطر من باعة الوهم والخديعة، أولئك الذين يتم استخدامهم لتمرير رسائل معينة نحو هذه الجهة أو تلك، مثل عرافة لا تجيد القراءة السليمة، لكنها تجيد التهويل بالويل والثبور وعظائم الأمور، تبشرنا بالخراب العظيم الآتي كأنها خرجت للتو من مركز صناعة القرار، أو مثل عرافٍ/ محلّل يرى ما لا يُرى إلا في أروقة السلطة ودهاليز الأجهزة التي تستخدمه كحمامة زاجلة أو غراب بين.
حرّاسٌ باعوا المفاتيح
والأمر الأكثر إيلاماً أن هذه المهزلة لا تُقام بمعزل عن حراس المعبد الإعلامي أنفسهم. أولئك المذيعون والمقدمون الذين يفترض بهم أن يكونوا حراساً للعقلانية وأمناء على وقت المشاهد، تراهم يبتسمون ابتسامات موقعة مسبقاً، يطرحون أسئلة تفتح الأبواب على مصراعيها أمام كل نبوءة جوفاء. بل الأدهى أن بعضهم يتنافس على استضافة «أشهر» العرافين، كأنما الشهرة هنا مقياس للمعرفة، لا للثرثرة.
لقد تحولوا من حراس للبوابة إلى بائعين لها.
يقدمون الدجل مغلفاً بغلاف التحليل، والخرافة مزيَّنة بشعارات الحداثة. يسألون بلهفة المتعلم من الجاهل: «ماذا ترى لبلدنا في قابل الأيام؟» كأن مصير أمة يمكن أن يُقرأ في فنجان أو يُستخرج من فضاءات النجوم البعيدة. إنهم يبيعون وقتنا، ووعينا، ومستقبلنا مقابل نسبة مشاهدة تتبخر مع آخر إعلان.
يا للعجب! في زمن الذكاء الاصطناعي الذي يحلل ملايين البيانات في ثوان، نعود إلى كهانة القرون الأولى. في لحظة تاريخية تحدد مصير لبنان بين حرب وسلام، بين سيادة حقَّة وتبعية مذلّة، بين بناء دولة حقيقية أو الاستمرار في العيش على الهاوية – في هذه اللحظة بالذات، نسمح لأصوات الادعاء أن تحتل مركز الصدارة.
يقيمون طقوسهم اليومية على مذبح المشاهدات والإعلانات
تخيلوا معي: عائلة لبنانية تجتمع أمام الشاشة، الأب قلق على عمله، الأم خائفة على أولادها، الشباب يتساءلون إن كان في هذا البلد مستقبل لهم. وفي هذه اللحظة الحميمة من القلق العائلي المشروع، يطل عليهم ساحر(ة) الشاشة ليقول إنه يرى «تحولاً في الطاقة السياسية»، أو «اقتراب موعد الحسم»، أو «حرباً لا تبقي ولا تذر». إنه يبيع الوهم بطريقة أذكى من بائع الوهم التقليدي لأنه يغلفه بمصطلحات سياسية، ويزينه بثقة المحلل المدرب.
كرنفال الوهم اليومي
وهكذا يعيش لبنان في كرنفال دائم من الوهم. كرنفال تتحول فيه الشاشات إلى خيمة سيرك كبيرة، يدخل إليها المشاهد فيُصاب بالذهول من حيل اللف والدوران. العراف السياسي والعراف الفلكي، كلاهما يمارس نفس الحرفة: قراءة الغيب. غيب النجوم أو غيب المصالح، غيب الكواكب أو غيب الأجندات. النتيجة واحدة: مشاهد مرتبك أكثر مما كان، خائف أكثر مما يجب، ضائع في متاهة من التكهنات المتناقضة.
وفي خضم هذا الكرنفال، تضيع الأصوات الحقيقية. تضيع أصوات العلماء، والمفكرين، والمحللين الجادين الذين يبذلون جهداً حقيقياً لفهم الواقع. تضيع الحقائق البسيطة التي يحتاجها المواطن ليتخذ قراراته. يبقى فقط ذلك الصدى البعيد لصوت العراف/ المحلل وهو يهمس: «سيكون هناك تغيير… ربما… قد يحدث…»
وهنا تكمن الخديعة الكبرى: حين تصدق نبوءة ما بمحض المصادفة، يرفعها العرّاف ومعه الإعلامي الداعم راية إثبات لمصداقيته. ينسون مئة نبوءة خاطئة، ويتشبثون بواحدة أصابت من دون علم ولا دليل. إنها كتلك الخدعة المعروفة: يرمي السهم أولاً، ثم يرسم الهدف حوله، ويعلن إصابته مركز القوس!
لا قيمة للنبوءة التي تصيب بالمصادفة، كما لا قيمة للساعة المتوقفة التي تصيب الوقت مرتين في اليوم. الحظ ليس علماً، والمصادفة ليست بصراً. لو كان هؤلاء حقاً يرون ما لا نرى، لاستثمروا في البورصة لا في الشاشات، لاشتروا الذهب قبل ارتفاعه، لتنبأوا بالزلازل قبل وقوعها. لكنهم لا يفعلون، لأنهم يعرفون – ونحن نعرف – أنهم يبيعون هواءً معبأً في كلمات رنانة.
نهاية اللعبة ليست في فضح هؤلاء المشعوذين الجدد، بل في تذكر أنّ المستقبل لا يملكه من يدعي قراءته، بل يملكه من يصنعه. المستقبل حجر في حائط الوطن، يضعه البناؤون الحقيقيون بحرفية وصبر، لا من يلوحون بأيديهم في الهواء ويدَّعون أنهم يلمسون السقف.
عندما تنطفئ الشاشة، ويغيب العراف المؤقت، يبقى الوطن وشجونه الحقيقية. تبقى الأسئلة التي تحتاج إجابات عاقلة، والمشكلات التي تريد حلولاً عملية، والغد الذي ينتظر جهوداً حقيقية. لن يبنى وطن بنبوءات، ولن يصلح بتكهّنات. تُبنى الأوطان بعقول مفكرة، وأيادٍ عاملة، وإرادة لا تستسلم للوهم حتى لو أُلِبس هذا الوهم ثياب النجومية وأُطلق عليه اسم «التحليل» أو التنجيم.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
