ميشال أبونجم
لمن كان يطمع في أن يجد في كتاب كارلوس وكارول غصن ما يشفي غليله من الأسرار التي أحاطت بسقوط أحد أقوى رجال الأعمال في العالم، المتربع لسنوات على قمة تحالف صناعي من 3 شركات مصنعة للسيارات، الذي كان الآمر الناهي، فإن خيبته ستكون كبيرة. ولمن توقع رواية على الطراز الهوليودي أو «الجيمس بوندي»، خصوصاً ما له علاقة بكيفية هروبه من اليابان إلى لبنان مختبئاً في صندوق خشبي كبير مجهز بثقبين لتمكينه من التنفس، سيبقى على عطشه. فكتاب كارلوس وكارول غصن المسمى «معاً إلى الأبد»، الصادر بالفرنسية عن دار «لوبسرفاتوار» في 305 صفحات، ضنين بالأسرار، ولكنه مكثر في وصف الحالة النفسية لهذا الزوجي الذي لا ينفك من الصفحة الأولى حتى الأخيرة عن التعبير عن تمسك كل منهما بالآخر إلى حد الوله، وأين منهما عشق «ليلى ومجنونها»! ولا يتردد المؤلفان اللذان رسما بنية الكتاب بشكل فريد: زمني التسلسل من جهة، ثنائي الصوت من جهة أخرى، بحيث يأتي كل فصل كأنه انعكاس أو تنويع على ما كتبه الآخر: فصل لكارلوس وفصل لكارول. هو يروي تجربته المرة منذ اللحظة التي شعر فيها أن الأرض تتهاوى تحت قدميه لدى وصوله ليل 19 نوفمبر (تشرين الثاني) إلى مطار طوكيو، حيث ألقي القبض عليه، واقتيد إلى السجن؛ وهي تغرق في وصف حالتها النفسية ومشاعرها من اللحظة التي تناهى إليها خبر توقيفه. هو محتجز لأسباب يجهلها، وهي غارقة في يأسها بسبب غياب الرجل الذي تحب، قبل أن تشمر عن ساعديها، وتنزل إلى أرض المعركة الإعلامية، وتتواصل مع كل من بيده ذرة من سلطة تساعدها على استعادة زوجها السجين. لكن هذا لا يعني أن الكتاب لا يثير الاهتمام، ولا يحمل للقارئ قصة علاقتهما، وتفاصيل تعلق كل منهما بالآخر وبعائلته.
تفاصيل السقوط
الكتاب يلقي ضوءاً مباشراً على اليابان، وعلى نظامها القضائي، وعلى الصراعات الكامنة التي تفجرت مع توقيف كارلوس غصن، رئيس تحالف 3 شركات مصنعة للسيارات: «رينو» الفرنسية، و«نيسان» و«ميتسوبيشي» اليابانيتين اللتين يؤكد غصن أنه أنقذهما من الزوال. والكتاب أيضاً، بريشة كارلوس الذي كان قد اتخذ من طائرته الخاصة منزلاً له بسبب تنقلاته التي لا تتوقف بين باريس وطوكيو وبيروت وأمستردام ونيويورك، وغيرها من المدن والعواصم، يصف لنا عالم الأعمال الذي لا يرحم، ومنطق الدول «البارد» الذي يسحق الأفراد، بحيث تطوى صفحتهم، ويتم تناسي ما قدموه، منذ اللحظة التي تتغلب فيها مصلحة الدولة على بؤس الفرد. هذا الرجل ثلاثي الجنسية، فهو لبناني المولد برازيلي النشأة فرنسي الصيت المهني، سقط من عليائه، وكان سقوطه قوياً.
ليس كتاب «معاً إلى الأبد» الأول الذي يغوص في قصة صعود وتهاوي كارلوس غصن، لكنه الأول الذي يروي من الداخل، وبريشة الشخص المعني، تفاصيل هذا السقوط، و«إجرامية» الماكينة القضائية اليابانية التي تقطع من يقع بين براثنها، كبيراً كان أم صغيراً، خصوصاً إذا كان كبيراً أجنبياً.
منذ المقاطع الأولى للكتاب، ينبه كارلوس غصن القارئ لما ينتظره في الصفحات الآتية: «هذا الكتاب يروي قصة الابتعاد التي فرضت علينا (هو وزوجته)، والعاصفة التي عبرناها، كل من جانبه، طيلة ما يقارب العام، هي قصة مقاومتي للظلم، وقصة المعركة التي خاضتها كارول التي لم تتوانَ عن تنبيه وسائل الإعلام حول عمل النظام القضائي الياباني، وهو الفضيحة الإنسانية التي لا يتحدث عنها أحد. وهذا حتى أتهاوى، ولكن ليس كما كان يرغب المدعي العام الياباني، وأقرر الرحيل (الهروب) لملاقاة المرأة التي أحب، رغم أنف الجميع».
في الساعة الرابعة (بتوقيت طوكيو)، هبطت طائرة «غولف ستريم» الخاصة في مطار طوكيو الدولي، بعد 13 ساعة طيران، ومفاجأة غصن كانت أن موظف الجوازات طلب منه الانتظار بسبب بوجود «مشكلة» تتعلق بجوازه، ليقوده لاحقاً إلى مكتب من أجل التحقق. وهناك، وجد 3 رجال، بينهم من سيصبح عدوه الأكبر، وهو المحقق من مكتب الادعاء، واسمه يوشيتاكا سيكي، الذي منعه من استخدام هاتفه الجوال ليتحدث إلى ابنته التي جاءت إلى طوكيو من مدينة سان فرنسيسكو للقائه. ثم اصطحبه الرجال الثلاثة في ممرات مظلمة، ليدخل في ناقلة صغيرة مقفلة إلى سجن «كوسوج» الرهيب، حيث أطلعه المحقق على سبب احتجازه، وهو الشكوى المقامة ضده بسبب إخفاء مداخيل مالية. وعندما طلب غصن حضور محام إلى جانبه، رفض طلبه، لتبدأ بعدها التدابير التي وصفها بـ«المهينة اللاإنسانية». هو حائر لا يدري ما يحصل له في بلد كان ينظر إليه على أنه «المنقذ». طلب منه أن يخلع ثيابه كافة، وأخذت منه ساعته وحزامه وحافظة أوراقه الشخصية. وكتب غصن ما يلي: «هيمن عليّ شعور متفجر بأنني تحولت من كل شيء إلى لا شيء». ثم اقتيد السجين الجديد إلى زنزانة تبلغ مساحتها 6 أمتار مربعة، في إحدى زواياها فراش موضوع على الأرض على الطريقة اليابانية، إضافة إلى أقل ما يمكن من التجهيزات. وسريعاً، انتابه شعور بالبرد، ورأى في ذلك وسيلة لإهانة النزيل، ومنعه من أن يستخدم ذهنه وذكاءه. وقبل أن يرقد في فراشه من غير أن ينام، تدور التساؤلات في ذهنه: من خطط لما أصابه؟ وكيف حصل ذلك؟ إذ ليس سهلاً لرجل يتنقل بين القارات من شقة فارهة إلى فندق «خمس نجوم» أن يجد نفسه سجيناً وحيداً منقطعاً عن العالم وهو الذي احتفل بعيد ميلاده في قصر فرساي الشهير قرب باريس.
المؤامرة
في سجن «كوسوج»، تحول رجل القارات الخمس إلى رقم «2245» الذي يتعين عليه النطق به كلما طلب منه التعريف عن نفسه. ويصف كارلوس غصن بالتفصيل فطوره الأول في زنزانته: بعض الأرز والأعشاب، مع الشاي الأخضر، وانتهى الأمر. ثم تبدأ جلسات الاستجواب مع عدوه الجديد (سيكي) التي لا تنتهي طيلة النهار، وأحياناً مساء وليلاً. ومن تفاصيل الاستجوابات أنه كان يقاد إليها فارغ اليدين: لا ورقة ولا قلم ولا محامين. 4 أو 6 ساعات متواصلة من الأسئلة المتلاحقة حول اتهامات يجيء المحقق على ذكرها، ويعود إليها، لعل إجابات غصن تكشف عن فوارق تفضح دفاعه أو تضعفه.
كارلوس غصن لا يجيد اليابانية، لذا كان صعباً عليه أن يعرف قوانين السجن، ولكنه شيئاً فشيئاً تعرف على بعضها، وهذه بعض الأمثلة: النوم الساعة التاسعة بعد إشارة صوتية، والنهوض السابعة صباحاً. ويتعين على السجين أن يرتب غرفته كل صباح، ولا يحق له التمشي في زنزانته ولا التمدد باستثناء الساعة المحددة المخصصة للقيلولة. كذلك يلزم بأن يبقى جالساً، وأن ينام إما على الظهر وإما على جنبه، شريطة أن يبقى وجهه بيناً ليراه السجان من فتحة الباب، كما أن الأضواء تبقى مضاءة طيلة الليل… وللسجين الحق في أن يستحم مرتين في الأسبوع، وعليه أن يدفع من جيبه ثمن المناشف وفرشاة الأسنان والمعجون المصاحب. وخلاصة غصن الأولى أن للتدابير كافة هدفاً واحداً: تحطيم شكيمة السجين، ومنعه من التواصل مع أي كان، ودفعه للاعتراف بذنبه. ولكن مشكلة غصن أنه يعد أن لا ذنب له، وأنه لم يرتكب أي خطأ، وقد ألقي به في السجن ظلماً. لذا، كان همه الأول أن يكتشف من حاك «المؤامرة» ضده. وبما أن لسفير البلد الذي يحمل السجين جنسيته الحق في القيام بزيارته، فقد زاره سريعاً سفير فرنسا (لوران بيك) الذي أعلمه أن مدير عام شركة «نيسان»، هيروتو سيكاوا، قد انتقد في مؤتمر صحافي أسلوب عمله وحياته، وتفرده باستخدام عدة شقق فارهة عبر العالم، واستخدام طائرة خاصة لتنقلاته… وذلك على حساب الشركة اليابانية. وخيبة كارلوس غصن أنه كان يحضر سيكاوا ليكون خليفته على رأس الشركة، ولذا فإن «خيانته» جاءت أكثر إيلاماً. وأخبره السفير الفرنسي لاحقاً أن شركة «نيسان» أعدت ملفاً ضخماً ضده، وهي المسؤولة عما يحصل له، بدفع من «سيكاوا»، وبالتشارك والتنسيق مع المدعي العام «سيكي»، والإعلام الياباني الذي كان حاضراً في المطار لدى توقيفه، وذلك لمزيد من الإذلال. إذن، قناعة غصن أنه «وقع في فخ»، وأن عليه الخروج منه، لذا فقد رفض المحامي الذي عينته «نيسان» للدفاع عنه، لكنه قبل المحامين الثلاثة الذين كلفتهم بذلك شركة «رينو».
يشكو غصن وزوجته كثيراً من المرات من النظام القضائي الياباني الذي يقوم على الضغوط على المتهم حتى يقر بذنبه، ويؤكد أن 99 في المائة من المتهمين يعدون مذنبين، إذ لا يحترم المحققون قاعدة أن المتهم بريء حتى إثبات أنه مذنب.
ولم تكن خيبة غصن من «نيسان» هي الوحيدة، إذ يشدد على خيبتين إضافيتين: الأولى من قادة شركة «رينو»، والثانية من السلطات الفرنسية، بدءاً من رئيس الجمهورية وصولاً إلى وزير الاقتصاد برونو لو مير. يقول غصن: «(رينو) قررت تركي لمصيري التعيس، من غير أن تأخذ بعين الاعتبار أن أكون بريئاً من التهم» الموجهة إليه. وسريعاً، عمدت «رينو» إلى قلب صفحة رئاسته لها، وهي بذلك اقتفت أثر ما قامت به شركتا «نيسان» و«ميتسوبيشي». وبحسب المؤلف، فإن اليابان لم تكن راغبة بمشروعه الطموح لدمج الشركات الثلاث، لذا، فتشت عن حجة لإطاحته ووأد خططه. ومن جانبه، لم يقم ماكرون بأية بادرة جدية لإخراجه من سجنه. في المقابل، يبدي الثنائي كثيراً من الاحترام للعمل الذي قام به السفير الفرنسي لمؤازرتهما، بعكس لومير، على الرغم من وساطة الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي الذي التقى كارول، ومكنها من الاجتماع بوزير الاقتصاد، ومن الوصول إلى الإليزيه. وعمدت كارول إلى إثبات نص رسالة مطولة وجهتها إلى رئيس الجمهورية، ولكنها بقيت من غير رد طويلاً، حتى جاءتها كلمة منه يقول فيها إنه «سيقوم بما هو ممكن» لمساعدة زوجها، ولكنه في الواقع لم يفعل.
«من القبر إلى المنزل»
يضيق المكان لرواية كل ما يحفل به الكتاب من تفاصيل الأشهر الطويلة التي أمضاها كارلوس في اليابان، إن في السجن أو في الإقامة الجبرية، وعلاقته مع محاميه، والمناورات التي لجأ إليها النائب العام لإبقائه لأطول وقت ممكن في السجن، ورفض الإفراج عنه بكفالة، وكيف أن التعبئة الدولية التي وقفت إلى جانبه، من منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان وجمعيات أخرى، دفعت القضاء إلى السماح بإخراجه من السجن، مع حرمانه من ترك اليابان. ويروي كارلوس سيناريو مثوله لأول مرة، بعد شهر ونصف الشهر من سجنه، أمام المحكمة، حيث اقتيد إليها مربوطاً بحبل لف حول خصره، ويمسك به أحد الحرس، كأنه حيوان يقاد إلى الذبح.
ويروي كارلوس كيف اختمرت في ذهنه فكرة الخروج أو الهروب. ونقطة الانطلاق بالنسبة إليه تأكده من أن القضاء ليس منصفاً، وأن الأكثرية الساحقة ممن يمثلون أمام المحاكم يدانون، وبالتالي أخذ يتصور أنه سيمضي سنوات وسنوات في السجن، وأنه لن يكون قادراً على البقاء في اليابان، لأن ذلك سيعني «موته البطيء». ثم هناك دافع آخر يشد من عزيمته للإفلات من قيوده، هو حبه لكارول، وعجزه عن العيش بعيداً عنها. يروي كارلوس بالتفصيل نضوج فكرة الهرب التي يرفض تسميتها هكذا. وبنظره هو لا يهرب من القضاء لأنه دائم الاستعداد لتحمل مسؤولياته، بل يفلت من الظلم اللاحق به، ومن لا إنسانية القضاء، على الرغم من أن اليابان تدعي أنها دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان.
لكن الكتاب في هذا المجال لا يأتي بجديد، إذ لا تفاصيل عن الاتصالات التي قام بها، وكيف تم ذلك، علماً بأنه كان تحت رقابة شديدة.
بقي غصن في اليابان بين السجن والإقامة الجبرية من 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 إلى 30 ديسمبر (كانون الأول) 2019، والتاريخ الأخير هو تاريخ وصوله إلى مطار بيروت بعد رحلة بطائرة خاصة من مطار ياباني مهجور بعيد عن طوكيو إلى إسطنبول، ومنها بطائرة خاصة أخرى إلى مطار بيروت. ويصف غصن رحلته بأنها «من القبر إلى المنزل». ومجدداً يعود إلى كارول: «كلما اقتربت منها، تسارعت نبضات قلبي». ولدى لقائها خارجة من سيارة صديقة لها قريباً من بيتهما في حي الأشرفية في بيروت، يعاجلها بالقول: «أنت لبوئتي، وهذا أجمل يوم في حياتي».
وتركز صفحات الكتاب الأخيرة على تبرير الفرار. ومباشرة بعد وصوله إلى بيروت، اتصل غصن بالرئيس اللبناني ميشال عون لينقل إليه الخبر، ثم زاره في القصر لإطلاعه على التطورات. وحظ غصن أن لبنان يرفض تسليم مواطنيه، غير أن القضاء اللبناني منعه من ترك الأراضي اللبنانية. لكن يؤكد غصن أن أمراً كهذا لا يشكل مصدر إزعاج له، إذ إن تعلقه بلبنان لم يضعف أبداً.
رسائل الحب المتبادلة
> يحفل الكتاب بنص كثير من رسائل الحب المتبادلة بين كارلوس وزوجته. وهذه بعض المقاطع أولاً من كارلوس إلى كارول: «إلى زوجتي الحبيبة، أموت شوقاً لرؤياك وتقبيلك ومعانقتك، أنت يا حبي. أنا أعشقك يا كارول. أفكر فيك كل لحظة، كل ساعة، أنت نور قلبي، ومن أجلك سأواجه كل شيء. أحبك إلى الأبد». ومن كارول إلى كارلوس: «حبيبي كارلوس، أنت حياتي، أشتاق إليك كل لحظة… أن تكون وحيداً أمر يدخلني في عالم الأحزان والغضب… لست وحيداً، فالدعم الاستثنائي يأتيك من نواحي العالم أجمع. أحبك يا حياتي، أنت نور شمسي، أنت ضوئي وسندي. أريدك أن تبقى قوياً. أحتاج إليك، ولا أقوى على العيش من دونك. أرجوك أن تهتم بنفسك. أحبك، كارول».
هذه الرسائل علامات يحفل بها الكتاب فصلاً بعد فصل. والثنائي يدخلنا في صميم علاقاته العائلية. هو لديه 3 بنات وشاب، وهي ابنتان وشاب. وصفحة بعد أخرى، نتعرف على ما يشعر به كل فرد من هذه العائلة الواسعة، وعلى الإعجاب الذي يكنه الجميع لكارلوس الذي يروي في نهاية الكتاب قصة علاقة الحب التي جمعته بكارول التي أصبحت لاحقاً زوجته الثانية، وكيف أنها أعادت إليه إنسانيته.
سيرياهوم نيوز 6 – الشرق الأوسط