إسماعيل مروة
الإثنين, 17-05-2021
رصد المسرح الروائي
يشهد المسرح الروائي العربي أمراً يعدّه بعضهم تطوراً، ويعدّه بعضهم انتكاسة، ولا يمكن أن يعطى في رأي ارتجالي إلا بعد دراسة، فقد صدرت منذ عقدين أو أكثر مجموعة من الروايات التي تتناول دقائق المجتمع العربي المغلق، سواء كانت صحيحة أم لم تكن، وهذه الروايات كانت في سباق محموم للوصول إلى الجوائز العالمية، والتي قال بعضهم، وقد يكون كلامه غير دقيق، بأنها تسعى لتقديم صورة معجوبة للمجتمعات بكل إباحيتها، ويذكر النقاد والقراء، سلسلة من الروايات الجنسية البحتة، والتي تشبه (رجوع الشيخ إلى صباه) وغيرها من الروايات التي تخترق التابو الاجتماعي الجنسي وأغلب هذه الروايات كانت تحمل توقيع كاتبات عربيات، سواء كان التوقيع حقيقياً أم وهمياً، ومنها سلسلة سبقت الربيع العربي المزعوم بأكثر من عقد تصور أسرار المجتمعات النسائية العربية، وخاصة في الخليج العربي والسعودية تحديداً مثل (بنات الرياض) وتصدرت هذه الروايات المشهد الروائي العربي، بل طغت هذه الأسماء النسائية وموضوعاتها على المشهد الروائي، وربما وجدت من يقلدها من الرجال والنساء على السواء بحثاً عن الشهرة والعالمية والجوائز، وأضيف: إن بعض الروايات ذات التوجه السياسي في الأصل قد جنحت إلى مثل هذا المنهج، خاصة بعد ما يسمى الربيع العربي، وبما أنني أعرف أصحاب بعضها على الأقل، فإن بإمكاني أن أزعم أنها غير حقيقية، وغاياتها محدودة في اتجاه واحد، وهذا الأمر وقف عنده الكاتب الكبير حنا مينة بصورة مذهلة «أرجوكم لا تسألوا، أو تتساءلوا، من أنا بين الكاتبات العربيات المشهورات، في طول الوطن العربي وعرضه، فلورنس شعلول هي كل هؤلاء الكاتبات، وهي فوق ذلك أو تحته، لا فرق، ليست واحدة من كاتباتنا المبجلات المنحوتات نحتاً، أو المقولبات قولبة.. مشاكسة تقولون؟! نعم مشاكسة! الزمن الرديء لا ينجب إلا أبناء أردياء، والزمن المشاكس لا يلد إلا أطفالاً ،.. أترك الكلام على الجسد، وذاكرة الجسد، وما تعلق بالجسد، إلى الفتيات الصايعات المستعجلات الشهرة.. إن شريك لورانس في تحبير هذه الرواية نصف عاقل نصف مجنون، ومساهمته في تحبيرها ستقتصر على رسائل موجهة منه إليه تحت عنوان رسائل من الذاكرة المجنونة» لقد عالج حنا مينة هذا الأمر بأكثر من ثلاثين صفحة، واجتزأت ما يريد الإشارة إليه، العلاقة بين الكاتبة وقلة الأدب، مكانة الكاتبة لورانس، السعي وراء الشهرة، مشاركة أحدهم في تحبير مثل هذه الأعمال.. وهذا يكفي لاكتشاف رأي الروائي بعد أكثر من ستة عقود من الرواية الحقيقية التي لم تهمل قاع المدينة، لكنها كانت عملاً روائياً، في حين تحولت كل الكتابات التي استغلت موجة الجنس إلى جزء من الذاكرة التاريخية، وقد تتحول مع الأيام إلى ما يشبه (رجوع الشيخ إلى صباه).
وللتجربة الروائية نصيب
وقد خصّ حنا مينة لتجربته الروائية، ولآرائه النقدية والأدبية القسم الأكبر من كتابه هذا، وهذا الجزء على الأقل يعدّ متمماً لسيرته الروائية التي صدرت كما أشرت في (كتاب الرياض) قبل عقدين أو أكثر «الأديب يبقى أديباً لا ناقداً، يبقى مبدعاً لا منظراً، إلا أن الخلط في الوطن العربي، لا يزال قائماً بين الإبداع والتنظير، فالصحفيون والقراء، يريدون من الأديب أن يتكلم عن هواجسه.. حسناً سأتكلم: إن الرواية، بالنسبة لي، تجربة حياتية، مفروضة وليست مقصودة، ومصدر هذه التجربة ما عشته ورأيته، بل أكثر من ذلك ما عانيته معاناة قاسية وأليمة، من دون أن تكون هذه المعاناة على قسوتها، خالية من الفرح، ما دامت تقترن بالكفاح» هكذا هو حنا مينة في تجربته الروائية، ويظن القارئ أنه اكتشف السر، لكن الحق أن ما قاله كاتبنا الكبير هو ما يعيشه كل مبدع، ويعبر عن هواجسه بطريقته، وكأنه يرفض مثل هذا السؤال ولا يريده أن يكون.
وأختم بمقطع من مقالة لحنا مينة، وأترك التعليق عليه لكل قارئ «الكاتب نبت أرضه، نبت وطنه، نبت مجتمعه، وهذا النبت تصوّحه، في أيامنا هذه كثير من الريح السموم، فهو لا يستطيع أن يكون متفائلاً حين يقرأ قصصاً كثيرة، ولا يستطيع أن يكون متفائلاً حين يكتب إليه أحدهم قائلاً: لقد صرت قانطاً، وبلغ بي الجنون أني صرت أفتش عن أحد يفهم مأساتي.. يبقى التفاؤل غير الأحمق مطلوباً، فنحن في زمن نحتاج فيه إلى رؤية صائبة، وإلى منهاج سديد، وإلى قيادة تؤمن، وتعمل بحسب هذه الرؤية، إلى أن يتحقق تقويم الاعوجاج» إنه باختصار حنا مينة.. رجل قرن.. رجل الرواية.
الأهمية والتجربة
عندما يرصد حنا مينة تجربته الروائية والحياتية والسياسية يجب أن نتوقف عندها طويلاً، فهي تجربة ممتدة زمنياً قاربت القرن من الزمن، ما أتاح لصاحبها أن يكون شاهداً مهماً على الزمن الذي مرت به سورية خلال هذا القرن، وإن أضفنا ما سمعه، فقد جاوز القرن، وهو صاحب رحلة ممتدة جغرافياً من لواء إسكندرون إلى اللاذقية ودمشق وبيروت وعواصم العالم التي لجأ إليها أو استضافته بعد أن صار أحد شيوخ الرواية العربية، وهو صاحب تجربة ملونة بالألم والحرمان والتشريد من موطنه بسبب الاحتلال، ومن ثم الانطلاق إلى آفاق العالم، وتلونت هذه التجربة بكثير من محطات الفرح والكبر عندما صار حنا من الذين يشار إليهم، بل من القلة الذين يشار إليهم في عالمنا الأدبي العربي.. وهي تجربة يفاخر بها حنا عندما يتحدث عن أم حنا وفخرها بشهادة «السرتفيكا» التي حصل عليها، وفي ظنها أعلى شهادات الكون، وهذا التكوين الثقافي لا ينقص من قيمة حنا مينة الذي استطاع بثقافة مجتمعية عالية، وتحصيل علمي عادي أن يكون مرآة للحياة الاجتماعية والسياسية في عصره على مدى قرن من الزمن، ولعله من المفيد أن نقف عند حنا وآرائه السياسية التي حافظ عليها وبقي على محافظته تلك، وبقي على وفائه للحزب الذي انطلق منه، وتبادلا هو والحزب الآراء والمصالح والمنافع، وقد حقق له حزبه الكثير من المزايا والملتقيات، ويلفت الانتباه في هذا الكتاب وفاء حنا لرفاقه من زعيم حزبه إلى الأعضاء والقيادات في سورية وخارج سورية، ولو وقفنا مع الصفحات الأولى من الكتاب فإننا نجد كذلك حنا مينة السوري وصاحب الرؤية الذي انحاز إلى سوريته، وكانت قراءته للحرب على سورية من البدايات في غاية الوضوح، دارساً الأسباب، عارضاً الواقع، متخوفاً من نتائج ما يجري على الأرض السورية، وفي مجمل قراءاته كان ذلك الأديب المفعم بالأدب، الذي يستهل ما يريد قوله بشعر دون ذكر شاعره، لأن هذا الشعر ينسجم مع الموضوع الذي يريد أن يطرحه في هذه الدراسة، وكذلك فإن حنا مينة الناقد ظهر متذوقاً من الدرجة الممتازة وقارئاً مهماً في استعراضه لشعر نزار قباني والياس أبو شبكة.
أخيراً
قلت: إن هذا الكتاب هو مزج بين أنواع الأدب الذاتي، وأكثر قرباً من فن السيرة الذاتية، وتأتي أهميته لأن حنا كان قد نشر سيرته الأدبية والروائية في كتاب الرياض، وهو في هذا الكتاب يستكمل سيرته الذاتية والروائية، بل إن عدداً من الفصول تكاد تكون فصولاً روائية سقطت سهواً في هذا الكتاب، وأعطت لمن لم يقرأ حنا مينة صورة عن أدبه، وفكرة عن أسلوبه.
«الجسد بين اللذة والألم» واحد من أهم الكتب التي صدرت لشاهد على العصر، شاهد من معارج الأدب والرواية، وربما كان من أهم محطات حنا مينة الكتابية عن سيرته وفنه، وعن آرائه ونقده، وعن رؤيته السياسية التي أبان عنها بوضوح، وقد وقفت عندما جاء في مقالته عن يوسف الفيصل، وهناك مقالات أخرى عن خالد بكداش، وعن بعض الشيوعيين في لبنان والأردن.. وفي الكتاب رصد لتنقلات حنا في لقاءات ومنتديات خاصة به وبرفاقه الشيوعيين.
يستحق هذا الكتاب منا القراءة، وأن نقف مطولاً عند الآراء الواردة فيه ومناقشتها حتى وإن كانت مخالفة لقناعات القارئ، ولا أظن كاتباً آخر وقف عند مثل هذه القضايا وبهذا الوضوح مثل حنا مينة، ويكفي ما تحدث، به عن الرواية وسماتها، وعن الجوائز ومغرياتها، وعن المرأة الروائية وعن الموضوعات المطروحة، والتفريق بين الكاتب الحقيقي والكاتب الذي بزغ فجأة ليختفي بعد ذلك.
بقي حنا مينة لأنه كان روائياً أصيلاً.. وصاحب نَفَس طويل لم يتوقف عن نبض الحرف والرواية
(سيرياهوم نيوز-الوطن)